تجميع تفريغ كل مجالس تفسير سورة النور
تجميع كل مجالس التفسير من أول سورة النور إلى آخرها

يمكنكم تنزيل ملف بكامل محتوى المجالس
بصيغة PDF
وكذلك بصيغة Microsoft Word
المجلس الأول
الحمد لله رب العالمين وصلِّ الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله أيها الإخوة الكرام مع أول حلقات تفسير سورة النور، وسيكون ذلك إن شاء الله هو موضوع المسابقة.
يقول الله تعالى: بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ﴿١﴾
هذه البداية تفردت بها هذه السورة – سورة النور- لأن الله تعالى فرض فيها أحكاما كثيرة على قِصر المبنى، ثم هذه الأحكام يجمعها رابط واحد وهو المسائل الاجتماعية التي يصلحُ بها المجتمع من الطهر والعفاف وصيانة الأعراض وغض البصر والحجاب والاستئذان وغير ذلك مما سيتبين لك إن شاء الله في هذه الحلقات يقول تعالى (سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ) فهذه ثلاث صفات للسورة (أَنزَلۡنَٰهَا) يعني هذه سورة منزلة من الله تعالى فليست من التشريعات الأرضية أو ليست قانونا بشريا وإنما أنزلها الله تعالى من فوق سبع سماوات فهي وحي من الله تعالى، ففارق كبير بين إنسان يطلب الهدى من رواية كتبها بعض المؤلفين أو قصة قصها بعض القصاصين أو قانون وضعه واضع من الناس أو نخبة من الشعب وبين من يطلب الهدى من وحي الله تعالى الذي أنزله على أنبيائه، إنه ليس ثَم هدى إلا هدى القرآن.
(سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا) فنحن الذين أنزلناها (وَفَرَضۡنَٰهَا) يعني فرضنا ما فيها من الأحكام لكثرة ما سياتي من الفرائض والحدود التي شرعها الله تعالى في هذه السورة، فالله تعالى افتتحها بهذا الكلام (سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا) وقُرئ وفرَّضناها فيكون هذا على كثرة الفرائض يعني فرضا بعد فرض.
(وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ) يعني واضحات، دلالات وعلامات واضحة على أن الله تعالى هو الذي يهدي إلى صراط مستقيم، دلالات واضحة على أن حكم الله تعالى أحسن الأحكام وعلى أن شريعته تبارك وتعالى أحسن الشرائع، فهي بينات لأنك لو قارنت أي فرض أو أي حد أُنزل في هذه السورة بما يتعاطاه الناس ويتعامل الناس به فستجد علوّ أحكام الله تعالى على الأحكام البشرية.
(لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ) يعني تتعظون وتذكرون قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته بعباده، (لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ) يعني تطيعون الله تعالى وترجعون إليه، وفي بعض أهل العلم قال هنا لطيفة في مسألة التذكر أن الله تعالى يسمي تعليم الناس بعد جهلهم ذكرى وتذكر يعني هذه الأحكام لم تكن معلومة قبل نزول السورة ومع ذلك فإن الله تعالى آثر أنْ يسميَ ذلك ذكرى، لماذا؟! لأن أحكام الإسلام كلها موافقة للفطرة التي فطر الله الناس عليها فكأن الإنسان يستحضر ما كان عالما، لذلك أنت لما تعلم أحكام الشريعة لا تجد غرابة في الأحكام كأنه لا يصح إلا هذا لأن الله تعالى فطر العباد على تلقي تلك الأحكام كأنك تذكرت بعد أن كنت ناسيا، وفي الحقيقة أنت علمت بعد أن كنت جاهلا لكن لأن الله تعالى غرس في الفطر السليمة الهدى فإن تلك الفطر توافق تلك الأحكام.
ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ﴿٢﴾
(ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ ) فهذا حد الزانية والزاني عند الله تعالى اجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، الجَلد هو ضرب الجِلد، يُقال جَلده يعني ضرب جِلده، وبطنه يعني ضرب بطنه، ورأسه ضرب رأسه، فالجَلد ضرب الجِلد، لذلك بعض أهل العلم نبّه أنّ هذا الجَلد لا يتعدى إلى اللحم، يعني لا يجرح فيحدث عاهات ونحو هذا، هو يؤلم نعم لكن لا يتعدى إلى اللحم.
(فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ ) هذا تفصيل حتى لا يلتبس، لو قال ربنا فاجلدوهما مائة جلدة كان ممكن يُظن أن كل واحد يأخذ خمسين، لا (كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ ) والآية افتتحت بالإناث قبل الذكور، في السرقة (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ) ابتدأ الله تعالى بالسارق لكن في الزنا قال (ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي) ابتدأ بالزانية، لماذا؟ لأن السرقة لا يتجاسر عليها في الغالب إلا الرجال، لأنها تحتاج غالبا قوة وشجاعة ومكر ونحوها، لكن الزنا لا يقع إلا اذا فتحت المرأة هذا الباب في الغالب، فلأجل هذا بدأ الله تعالى بهن في هذا المقام.
(وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ) لا ينبغي لأحد أن يقول الرحمة والرأفة، لأن الحدود شرعها الله تعالى استصلاحا للناس، ورحمة بالمجتمعات، ممكن يكون في قسوة على هذا الفرد في هذا المقام لكن من أجل أن تعم الرحمة في المجتمع، فلا أحد يقول الحد فيه شدة وفيه قسوة؛ نعم فيه شدة على هذا المجرم الذي أتى هذه الجريمة لكن في النهاية تؤول تلك الحدود إلى الرحمة، يعني مثلا الغرب لما قال عقوبة الإعدام فيها إزهاق الأرواح وبعض الدول الغربية ألغت عقوبة الإعدام ثم بعد سنوات مرت رجَّعوا عقوبة الإعدام، عرفوا ولكم في القصاص حياة، القتل أنفى للقتل، يعني إقامة هذا القتل في الناس يقلل القتل، هي عقوبة شديدة صحيح أن تزهق نفسا لكنها تحفظ المجتمع بالكامل بعد هذه النفس بخلاف أنك تحافظ على نفس وتضيع أنفس.
والحدود - حد الزنا - يقيمه أولياء الأمور على الناس، إلا السيد يقيمه على عبده وأمته ولا يرجع إلى الحكام وأولياء الأمور لكن سيدها يقيم عليها الحد فسيدنا عبد الله بن عمر جلد جارية له في الزنا فقال له عبيد الله ولده (وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ) هو ضرب ظهرها ورجليها، والجلد يكون على الظهر إجماعا وعلى الرجلين وغير المواضع المَقاتل مثل الرأس والوجه، فقال له عبيد الله (وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ) فقال أي بني ورأيتني اخذتني بها رأفة؟! فإن الله تعالى لم يأمرني بقتلها ولا أمرني أن أجعل جَلدها في رأسها، يعني تضرب وتوجع ولا تبرح ولا تبلغ اللحم ولا تقتل، حتى ذكروا أن الضارب لا يبدو إبطه.
(إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ) وهذا حث على تنفيذ الأحكام الشرعية، يعني لو عندك إيمان لو عند الناس إيمان فلا تأخذكم رأفة في إقامة حدود الله تعالى، ولا شفاعة في الحدود، النبي عليه الصلاة والسلام لما شفع أسامة ابن زيد في المرأة المخزومية التي سرقت غضب عليه الصلاة والسلام وقال أتشفع في حد من حدود الله؟!، يمكن الشفاعة في الحدود قبل أن تبلغ الحاكم فلو أحد سرق منك شيئا وقامت عليه البينة يمكن أن تتركه وتعفو عنه أمَّا لو بلغت به الحاكم وقلت له سرق وأثبت السرقة بالبينة أو الشهود فالحاكم يقيم عليه الحد ولا شفاعة ولا تملك العفو بعد ذلك، الزبير بن العوام لقى رجلا قد أخذ سارقا، وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله فقال له لا حتى أبلغ به السلطان فقال اذا بلغت به السلطام فلعن الله الشافع والمشفع، المقصود أن الحدود يعفو عنها الناس بعضهم عن بعض لكن اذا بلغت الإمام فلا عفو، هذا هو الأصل فإذن إذا بلغت الإمام فلا تأخذكم بهما رأفة في دين الله (إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ).
(وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ) هذا أيضا من أحكام الله تعالى، أن يشهد عذاب هذين الزانيين طائفة من المؤمنين لأجل النكال والعبرة، فمن كان في نفسه شهوة ومرض ويمكن أن يقع في هذا الإثم لمَّا يرى تلك العقوبة أمام عينيه يُزجر، فمثلا تخيل أنك في بلدة تقيم تلك الحدود فدخلت الجامعة مثلا وفي أول يوم وجدت إدارة الجامعة نصبت مسرحا ونصبت شاشات في أرجاء الجامعة وجلدت زانيين فكيف سيكون سلوكك في بقية أيام الجامعة؟! بخلاف مثلا لو دخلت الجامعة وجدت مثلا التبرج والسفور والاختلاط وهذا الباطل فإنك تدخل تريد أن تتقي الله فلا تكاد تنجو ولا تكاد تستقيم، (وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ) من اللطائف ما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان، حدثنا بقية قال: سمعت نصر بن علقمة في قوله: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) قال: "ليس ذلك للفضيحة، إنّما ذلك ليُدعى الله تعالى لهما بالتوبة والرحمة"، فالحد لمّا يقام صحيح يشهد العذاب طائفة من المؤمنين ليكون في ذلك عبرة وعظة ونكال، عبرة وعظة للمشاهِد ونكال للمجلود، لكن أيضا في طائفة من المؤمنين من أهل الصلاح يشهد هذا الحد فسيدعون لهما بالمغفرة والرحمة والتوبة والرجوع إلى الله تعالى، فهذا أيضا من فوائد شهود المؤمنين لحد الله تعالى الذي يقام في الأرض.
هذه الآية فيها خلاف بين أهل التفسير والذي نختاره أنها في الترهيب من الزنا وفي تقبيح الزنا وفي تشنيع هذا الفعل وفي تسمية تلك الفاحشة باسمها يعني الزاني لا ينكح – ليس لا يتزوج – لا يطأ إلا زانية أو مشركة، يعني لا يطاوعه على الزنا إلا زانية أو مشركة، لا يوجد شيء اسمه باسم الحب ولا الحب له حق، كما يشيع المغنيون والمغنيات والممثلون والممثلات هذا الباطل في الناس، كأن هذا الحب هو الميثاق الغليظ الذي أخذه الله تعالى على الناس، فالله –عز وجل- نفى هذا الباطل فقال الزاني لا يطاوعه على الزنا إلا زانية، وتأمل لم يسمها الله محبوبة ولا معشوقة ولا مساكنة، فهذا قول الجمهور أن الزاني لا يطاوعه على الزنا إلا زانية أو مشركة، والزانية لا يطاوعها على الزنا إلا زان أو مشرك.
(وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ) يعني الزنا، ويسمى باسمه لأن ربنا لم يستعمل الكنايات مع أن في مواضع من القرآن كما قال ابن عباس أن الله كريم يكني ما يشاء، لكن هنا صرّح ربنا في الآية باسم الفاحشة، كي تكون واضحة فلانة اسمها زانية وفلان اسمه زاني وهذه العلاقة التي هي خارج إطار الزواج وملك اليمين لا تسمى إلا بهذا الاسم، لا نسميها صداقة ولا مساكنة، كل ذلك اسمه زنا حرمه الله على المؤمنين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" فيزول عنه اسم الإيمان في هذا الوقت لأنه انتهك حرمة عظيمة من حرمات الله تعالى، لكن هو معه أصل الإيمان لكن ينتفي عنه كمال الايمان.
والآية فيها قول آخر أن الزاني لا يتزوج إلا زانية والزانية لا يتزوجها إلا زاني، ومن قال بهذا القول هم الحنابلة وقالوا لا يحل زواج العفيفة من الزاني وهذا خلاف مذهب الجمهور، وهنا لطيفة؛ الإمام أبو محمد بن أبي حاتم رحمه الله قال: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد، عن ابن أبي ذئب، قال: سمعت [شعبة] -مولى ابن عباس، رضي الله عنه- قال: "سمعت ابن عباس وسأله رجل قال: إني كنت ألم بامرأة آتي منها ما حرم الله عز وجل علي، فرزق الله عز وجل من ذلك توبة، فأردت أن أتزوجها، فقال أناس: إن الزاني لا ينكح إلا زانية، فقال ابن عباس: ليس هذا في هذا، انكحها فما كان من إثم فعلى"، وقول الجمهور هو اختيار ابن جرير الطبري أيضا كي لا يعارضنا أحد ببعض أسباب النزول نقول له ابن جرير أورد تلك الأسباب جميعها بأكثر مما تتخيل؛ أثرمرثد وأثر أم مهزول والبغايا في الجاهلية ونحو هذا وأعرض عن كل هذه الروايات واختار هذا القول الذي اخترناه لأنه لم يرَ تلك الآسانيد حاكمة، فضلا عن أن في قاعدة في أصول التفسير أن سبب النزول غير ملزم في التفسير من كل الوجوه يعني يمكن أن يحتمل أحد الوجوه.
إذن القول المختار في المسابقة في معنى الآية أن الزاني لا يطاوعه على الزنا ليست الصديقة ولا العشيقة ولا المحبة ولا المساكنة؛ لا يطاوعه على الزنا إلا زانية أو مشركة لا تؤمن بالله تعالى، وهذا تفريق واضح بين أهل الكبائر وبين أهل الشرك فالآية فيها رد على الخوارج الذين يكفرون بالكبيرة؛ أن الله تعالى فرّق بين الزانية غير التائبة وبين المشركة. والزانية لا يطاوعها على الزنا إلا زان أو مشرك.
(وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ) تذكر دائما إذا دعتك نفسك إلى تلك الفاحشة أنها ترفع عنك اسم الايمان؛ ستسمى زان وليس مؤمن، "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن".
وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ﴿٤﴾
شرع الله -تعالى- هذا الحد صيانة للأعراض، ليس معنى أن الزاني والزانية أتيا منكرا أن كل أحد يتهمهما بالزنا، لا؛ الزنا لابد أن يقوم عليه شهود أربعة. (وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ) لو أنّ أحدا قذف امرأة من المسلمات وقال فلانة زانية أو حتى قذف رجلا من المسلمين وقال فلان زان (ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ ) فحده عند الله تعالى (فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ) ثلاثة أحكام وقعت عليه؛ يُجلد؛ نقول له معك شهود؟! أنت تقول فلانة زانية رأيت هذا الزنا بعينيك؟ فلو قال رأيت بعيني نقول ومن يشهد معك؟ لن نقبل شاهدين، مطلوب أربعة شهود، فلو لم يشهد معه يعني يتم الأربع شهود بنفسه يعني هو واحد ويأتي بثلاث معه؛ لو لم يكن هناك أربعة شهداء على الزنا يُعتبر قاذف ويُجلد ثمانون جلدة، حتى لو جاء بالشهود وثلاث شهدوا هو واثنان آخران ثم جاء الرابع فتلكأ أو تردد وما شهد نجلد الثلاثة، فتأمل الله –عز وجل- يريد أن يضيق تلك المداخل على الأمة، الآن لما تسأل عن مسلمة يُقال لك بها وبها من الكنايات، نقول اتقوا الله! أنتم تريدون أن تحذروا نعم لكن لا تُشيعوا الفاحشة في المؤمنين، حتي لا يستقيم في ذهن النفوس الضعيفة انتشار الفاحشة في المؤمنات فتسهل على النفوس. بخلاف أن ربنا يأمرك إذا رأيت هذا الأمر وليس معك الشهود تسكت لا يجوز لك أن تتهم بالزنا ولو اتهمت بالزنا فعليك حد القذف في ظهرك ثمانون جلدة ولا تقبل لك شهادة أبدا وتسمى فاسقا. يعني ثلاث عقوبات شديدة يجلد وتسقط شهادته ويسمى فاسقا.
إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ﴿٥﴾
لو ظهرت عليه علامات التوبة وأقلع عن قذف المحصنات ولم يرجع إلى هذا الأمر وأصلح وظهر منه الصلاح فان الله غفور رحيم، لكن هذا ليس للحد فهو سيجلد على كل حال، لكن بعد التوبة والصلاح تقبل شهادته ويرتفع عنه اسم الفسق، فالاستثناء هنا على العقوبتين الأخيرتين فقط وليس على الثلاث عقوبات. فبعد الجلد والتوبة الحاكم يرفع هذا الحكم يقول فلان تاب وأصلح وأقلع عن قذف المحصنات وبدا عليه الصلاح وترك سبيل أهل الفسوق فبعدها تُقبل شهادته ولا يُسمى في الناس فاسقا. وبعض أهل العلم اشترط أن يُكذِّب نفسه كي تُقبل توبته؛ يرجع يقول فلانة التي قذفتها أنا كنت كاذبا في قذفها، ومن هؤلاء الذين اشترطوا هذا الشرط سيدنا عمر رضي الله عنه.
طيب هذا الأمر واضح لكن هذا في حق أي أحد غير الزوج، لأن الزوج إذا رأى مثل هذا من زوجته فهذا أمر عظيم، صعب عليه أن يسكت حتى يلتمس الشهود، سيدنا سعد بن عبادة رضي الله عنه سيد الخزرج كان مشهورا بغيرته فقال للنبي عليه الصلاة والسلام يا رسول الله أهكذا انزلت؟! لما سمع (وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ) فقال يا رسول الله أهكذا أنزلت؟ سيدنا محمد لما سعد بن عبادة قال له هذا فقال اسمعوا ماذا يقول سيدكم يا معشر الأنصار! فقال يا رسول الله والله إني لأعلم أنها حق وأنها من عند الله لكني تعجبت لو رأيت لُكاعا –زوجته- تفخذها رجل فاطلب له الشهداء فلا أطلب الشهداء حتى يكون قد قضى حاجته! فالنبي عليه الصلاة والسلام ليس عنده إلا هذا الأمر، فلم يمر إلا قليل وجاء هلال ابن أمية واتهم زوجته بالزنا في شريك ابن سحماء، يعني سمى زوجته وسمى من زنى بها في حد زعم هلال ابن أمية فقالوا ابتلينا بما قال به سعد بن عبادة. فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- لهلال بن أمية البينة أو حد في ظهرك، فقال يا رسول الله والله إني لصادق، ولكن مثل هذه المسألة ليس فيها صادق ولا كاذب، المسألة فيها أنك رميت محصنة بالزنا وليس معك الشهود، أنت صادق ولا كاذب هذا بينك وبين ربنا لكن عند الحاكم إما الشهود وإما حد القذف، وديانة أيضا بينك وبين الله لا يجوز لك أن تشهد إلا مع الشهود لأن ربنا يسميك فاسقا عنده ولو كنت صادقا، وهذا تغليب لمصلحة أمة كاملة؛ هذا الحكم تغليب لمصلحة الأمة ألا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، المهم سيدنا هلال بن أمية لما قال هذا الكلام رجى من الله تعالى أن يبرئه أن ينزل الوحي وتنزل آية براءة له من أن يُجلد في رمي امرأته بالزنا، فنزل قوله تعالى:
وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ أَزۡوَٰجَهُمۡ وَلَمۡ يَكُن لَّهُمۡ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمۡ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمۡ أَرۡبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ ﴿٦﴾ وَٱلۡخَٰمِسَةُ أَنَّ لَعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ﴿٧﴾
ربنا خفف عن الأزواج لأن هذا عرضهم، فبعيد جدا أن يرمي الرجل امرأته بالزنا كذبا لأنه عرضه، فربنا خفف عنه بدل الأربع شهود تحلف أربع شهادات بالله، والله حكم عدل هو خفف عن الأزواج لكن راعى أيضا الزوجات لاحتمال عدم صدق الزوج أو توهمه، فالمراد من التخفيف أن يرفع عن نفسه حد القذف ويستطيع أن يلاعن ويرمي امرأته بالزنا لكن يشهد أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين يقول: "أشهد بالله إني صادق في فيما رميت به زوجتي هذه من أمر الزنا"، ويشير إليها لكي يبقى الأمر واضحا، ثم يحلف الخامسة (وَٱلۡخَٰمِسَةُ أَنَّ لَعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ).
ومن حين يحلف توجد أحكام، أولا الولد الذي طعن في نسبه أو الحمل لن يُنسب إليه؛ يعني لن يدعى إليه؛ لن نقول فلان ابن فلان الأصل أن الولد للفراش لكن اذا لاعن امرأته نقول لا هنا الولد لن ينسب إليه ولكن يُنسب إلى أمه. ثانيا وجب عليها الحد، وحدها هو الرجم لأنها محصنة –كما سيأتي- تستحقه ما لم تدفع عن نفسها هذا الحد، ولكن كيف تدفعه عن نفسها؟! يقول الله تعالى:
وَيَدۡرَؤُاْ عَنۡهَا ٱلۡعَذَابَ أَن تَشۡهَدَ أَرۡبَعَ شَهَٰدَٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ﴿٨﴾
وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ ﴿٩﴾
تحلف تقول: "أشهد بالله أن زوجي كاذب فيما رماني به من الزنا"، أربع شهادات ثم تحلف الخامسة (وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ) هنا النبي عليه الصلاة والسلام دعا امرأة هلال ابن أمية وقرأ عليهما الآيات وذكرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، لأن أحدهما كذاب هو يقول أنا صدقت عليها وهي تقول له يا رسول الله كذب، فإما أن يكون الزوج كاذبا ويناله لعنة الله أو يكون صادقا وينالها غضب الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام ذكرهما أن مهما كان عذاب الدنيا شديد اذا كان حد القذف للرجل ثمانين جلدة أو حد الرجم للمرأة فهو أهون من عذاب الآخرة، فلما قال أنا صادق وهي قالت هو كاذب فقال لاعنوا بينهما فلاعنوا بينهما فحلف هلال أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم قيل له عند الخامسة اتق الله إنها الموجبة، فعند الخامسة يستحب أن يُذّكر يُقال له اتق الله وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وتلك الموجبة تُوجب عليك لعنة الله، فسيدنا هلال لما قيل له هذا الكلام قال لا والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها - يقصد إذا كان ربنا أنزل فيه قرآنا مخصوصا يرفع عنه حد القذف- ، ثم قيل لها احلفي فحلفت أربع شهادات ثم قيل لها في الخامسة اتق الله إنها الموجبة – توجب عليكي غضب الله – فتلكأت يعني تأخرت في أن تحلف ثم حلفت أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فكان قضاء النبي عليه الصلاة والسلام أن يُفرّقَ بينهما، وأصبح التحريم بينهما أبديا فلا يجوز له أن يتجوزها أبدا، وليس محرما لها، لكن هذا تحريم عقابي تحريم أبدي بين الزوجين، والولد لا يُنسب إلى هذا الزوج، لكن من رماها أو رمى ولدها يُحد حد القذف، لأنها درأت عن نفسها العذاب بالحلف، حتى أن الإمام أحمد أخرج هنا عن عكرمة أنه قال ولقد رأيته أميرا على مصر من الأمصار، ويُنسب إلى أمه ولا ينسب إلى أب يعني يقال فلان ابن فلانة وأصبح أميرا يعني عاش كريما لا يُرمى بأنه ولد زنا حتى بلغ منصب الإمارة.
طيب ربنا قال في حق الزوج اللعنة وفي حق المرأة الغضب! قال بعض المفسرين لأن الزوج فيما رمى به زوجته جلب عليها اللعنة؛ الناس تلعنها؛ فلو كان كاذبا كانت اللعنة عليه هو، وهي لو كانت كاذبة فقد علمت الحق وأنكرت وهذا شان المغضوب عليهم، وفي وجه آخر قالوا لأنها استجلبت غضب زوجها عليها لما لوثت فراشه فنالت غضب الله تعالى عليها.
وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴿١٠﴾
(وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ) يعني هذه الأحكام التي أنزلها الله تعالى من حد الزاني وحد القاذف والتخفيف على الأزواج في مسألة اللعان كلها من فضل الله تعالى ورحمته على هذه الأمة، (وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) يفتح أيضا باب التوبة للزاني، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يكره أن يأتي الزاني يعترف بين يديه، فقال: "اجْتَنِبوا هذه القاذوراتِ التي نَهى الله عنها، فمَن أَلَمَّ فلْيَستَتِرْ بسِترِ اللهِ، ولْيَتُبْ إلى اللهِ؛ فإنَّه مَن يُبدِ لنا صَفحَتَه، نُقِمْ عليه كتابَ اللهِ عزَّ وجلَّ"، ولمَا سيدنا ماعز جاء يعترف على نفسه بالزنا ردّه في الأولى والثانية يرد والثالثة يرد ويسأل أهله هل به جنون، يريد عليه الصلاة والسلام أن يرجع يتوب بينه وبين الله، ولما جاءته الغامدية راجعها عليه الصلاة والسلام فمما قالته لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزا إني لحبلى من الزنا. فالمقصود أن الإسلام - شريعة الإسلام - غير متشوفة لجلد الظهور ورجم الناس وقتل الناس، بل العكس أنزل الله هذه الحدود رحمة بالناس وبالمجتمعات كي يبقى في رادع، لكن في نفس الوقت سترا للفاحشة استتر وتب بينك وبين الله فإن اعترفت فالحدود كفارات لا شك، لكن لو لم تعترف بذنبك عند الحاكم فإنك تتوب بينك وبين الله وهذا هو المستحب الذي استحبه النبي عليه الصلاة والسلام للأمة بتشريع الله تعالى طبعا.
الزانيان إذا كانا محصنين فإن حكم الله تعالى فيهما الرجم وليس الجلد، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين، من رواية الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني، في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما: يا رسول الله، إن ابني كان عسيفا - يعني أجيرا - على هذا فزنى بامرأته، فافتديت [ ابني [ منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله: الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام. واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها "، فغدا عليها فاعترفت، فرجمها.
ويؤخذ من الحديث أيضا أن من موجبات إقامة الحد الاعتراف لأنه أيضا بينة، فلو اعترف على نفسه بالزنا لا يلزم الشهود، واعتراف الرجل على نفسه لا يلزم منه ثبوت الزنا في حق المرأة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقل وعلى امرأة هذا الرجم بل قال واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها.
مسألة: الشهود الأربعة يشهدون بالزنا الصريح، فلا يُقبل منهم أنهم رأوا الرجل والمرأة في بيت واحد ولا في لحاف واحد، بل يشهدون بالزنا الصريح يقولون رأينا فرجه في فرجها، والتشديد في أمر الشهادة هذا حتى لا تشيع الفاحشة، ولا تسهل تلك الفاحشة في أعين وأذهان الناس لكثرة الواقعين فيها.
مسألة: لماذا لم ينص الله تعالى على حد الرجم في القرآن بنص محكم؟! النبي عليه الصلاة والسلام رجم امرأة الأعرابي ورجم ماعزا والغامدية ورجم اليهوديين والصحابة رجموا، وفي الصحيحين أن عمر، رضي الله عنه، قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فإن الله بعث محمدا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى، إذا أحصن، من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو الحَبَل، أو الاعتراف.
فهذا الحد الثابت نُسخ تلاوةً من القرآن كأن الله تعالى يقول لنا أولا لا ينبغي للثيب أن يقع في الزنا لأن له بابا من الحلال أو تزوج قبل ذلك، وثانيا تكريما لهذه الأمة، لأن حد الرجم نُص عليه في التوراة وبين يدي النبي عليه الصلاة والسلام قال اقرأ فوضع اليهودي يده على آية الرجم، فربنا كرّم هذه الأمة فلم ينص على هذا الحد في القرآن بنص محكم حتى يظهر إيمانها أنها تعمل بالأدلة التي هي دون الأدلة، يعني اليهود نص على حد الرجم في التوراة عندهم وحرفوها والمسلمون لم ينص على حد الرجم في القرآن وعملوا به فكانوا أكرم من أمة اليهود في العمل، كما مثلا لمّا أراد ربنا أن يبتلي سيدنا ابراهيم عليه السلام لم يرسل له جبريل يقول له ربنا يقول لك اذبح ولدك وإنما أراه رؤية في منام، وكان يمكن لإبراهيم عليه السلام أن يتعلل يقول هذا منام وأنتظر الوحي من السماء، لكنه عليه السلام يعلم أن رؤيا الأنبياء حق هو دليل لكن دون الدليل دون الوحي، فأيضا السنة دليل دون الدليل دون القرآن وعملت به الأمة، وهذا تكريم لهذه الأمة حتى يظهر الله تعالى إيمان أمة الإسلام أمام مثلا جحود اليهود لأن النص عندهم في التوراة وكتموه وغيروه وبدلوا فكرّم الله تعالى هذه الأمة أن عملت بالسنة وهذه السنة مجمع عليها في المذاهب الأربعة وفتاوى علماء الأمصار على مر العصور الإسلامية بأن الرجم ثابت مجمع عليه.
مسألة: الثيب من جامع في نكاح صحيح – يعنى زواج صحيح – وهو حر بالغ، ويسمى أيضا المحصن، وكلمة محصن لها معاني في القرآن، في اللغة الإحصان: المنع، يقول لك فلان تحصن بحصن يعني امتنع منا بحصن. وفي القرآن له معان، الأول الحرية؛ فالمحصنة أي الحرة (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) المحصنات أي الحرائر غير المتزوجات هذا معناها في هذه الآية في سورة النساء، والمعنى الثاني تأتي بمعنى العِفّة (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) المحصنات أي العفيفات سواء كن ثيبات أو أبكارا، والمعنى الثالث تأتي بمعنى الإسلام لأن الإسلام حصن يمنع الناس من الفاحشة.
"وصلَّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله "
"والحمد لله رب العالمين"
المَجْلِسُ الثَاني من مجالس تفسير سورة النور - حادثة الإفك - نَصّ الحديث مع بعض التعليقات على غريب الألفاظ
حَدِيثُ الْإِفْكِ
الإفكُ هو قلب الشيء؛ كما سمى الله - تعالى - قرى قوم لوطٍ المؤتفكة؛ لأنهم قلبوا الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، أو لأن الله -عز وجل- جعل عاليها سافلها
﴿ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ﴾ ﴿ فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ﴾
فأهل الإفك لوضوح كذبِهم سمى الله -تعالى- كذبَهم إفكًا لأنهم قلبوا الحقيقة، من عفة عائشة وطهرها وحصانتها إلى ما رموها به من الفاحشة.
فقال الله -تعالى- مفتتحا براءة أمنا عائشة:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾
(عُصْبَةٌ مِّنكُمْ) أي جماعة، والله -عز وجل- أراد التقليل؛ يعني جماعة قليلة من المؤمنين، رغم أن الكلام كثُر في المدينة، لكن الذين خاضوا فيه جماعة قليلة منكم أي من المؤمنين.
(لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ)
لأن الله يوقعُ في الدنيا من البلاء ما يوقع على عباده المؤمنين ليكون عاقبة ذلك خيرا لهم إذا صبروا على بلاء الله -تعالى- كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام
"عَجِبْتُ لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خيرٌ، إن أصابَهُ ما يحبُّ حمدَ اللَّهَ وَكانَ لَهُ خيرٌ، وإن أصابَهُ ما يَكْرَهُ فصبرَ كانَ لَهُ خيرٌ، وليسَ كلُّ أحدٍ أمرُهُ كلُّهُ خيرٌ إلَّا المؤمنُ"
(السلسلة الصحيحة 147)
ويتبين لك من خلال الآيات كيف سيكون ذلك خيرا لعائشة ولآل أبي بكر ولأمة الإسلام عموما.
(لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) كبره يعني أكثره أو معظمه، والذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي ابن سلول.
ومما يساعدنا على فهم الآيات ذكر الحديث الذي ورد في الصحيحين عن أمِّنا عائشة رضي الله عنها
من مصنف عبد الرزاق (عبد الرزاق - أبو بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني) - كتاب المغازي - حديث الإفك
9748 عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ : أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا قَالَ : فَبَرَّأَهَا اللَّهُ وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنْ حَدِيثِهَا، وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَأَثْبَتَ اقْتِصَاصًا، وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِي حَدَّثَنِي، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، ذَكَرُوا أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ
(وهذا فيه مشروعية القرعة في مثل هذه الأمور)
قَالَتْ عَائِشَةُ : فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا
(وهي غزوة بني المصطلق وتسمى أيضا غزوة المريسيع)
فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْحِجَابَ
(تقصد بعدما فُرض حجابُ الأشخاص على أمهات المؤمنين وهو حجاب خاص فرضه الله تعالى على أمهات المؤمين لما أنزل قوله تعالى ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ﴾ فكان فرض على نساء المؤمنين إذا سُئلن المتاع يكون ذلك من وراء الحجاب؛ وإذا خرجن من بيوتهن يكن مغطيات الوجوه بخلاف نساء المؤمنين كما سيأتي في قوله تعالى ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾)،
وَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فِيهِ، فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوِهِ قَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ
(نادى منادٍ أن النبي عليه الصلاة والسلام يأمركم أن تجهزوا للرحيل)
فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي، أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارٍ
(ظِفارِ مدينة في اليمن)
قَدِ انْقَطَعَ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ بِي فَحَمَلُوا الْهَوْدَجَ فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ قَالَ : وَكَانَتِ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا فَلَمْ يُهَبَّلْنَ
(لم يثقلن بالشحم واللحم)،
وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَلُوهُ وَرَفَعُوهُ، وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ، فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا بِهِ، وَوَجَدْتُ عِقْدِي بِهِمَا بَعْدَمَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ
(كان من هديه عليه الصلاة والسلام في أسفاره أن يمشي بجوار بعير زوجته ويحادثها، لكن هذا لم يحدث لتقدير الله تعالى لهذه الحادثة)،
فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ حَتَّى أَصْبَحْتُ، وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ قَدْ عَرَّسَ
(تأخر ليلا)
مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَادَّلَجَ
(تحرك في آخر الليل)
فَأَصْبَحَ عِنْدِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي وَقَدْ كَانَ رَآنِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلِيَّ الْحِجَابُ، فَمَا اسْتَيْقَظْتُ إِلَّا بِاسْتِرْجَاعِهِ
(قال إنا لله وإنا إليه راجعون)
حِينَ عَرَفَنِي فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَوَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا
(على يدي الراحلة حتى لا تتحرك)
فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَمَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ
(الوغرة: شدة الحر)
فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ
(يعني وصلوا الجيش في ذلك الوقت، وبعض من تدبر ذلك قال أهل الريبة كان ينبغى أن يعقلوا أن صاحب الريبة لا يدخل على الناس في ذلك الوقت في وضح النهار وإنما يتخفى)
فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي، وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فَتَشَكَّيْتُ حِينَ قَدِمْتُهَا شَهْرًا
(وهذا من لطف الله تعالى بأمِّنا عائشة أنها مرضت فلا تخرج من بيتها ولا تدري ما يقول الناس)
وَالنَّاسُ يَخُوضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي
(لأنها معتادة من النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون أكثر لطفا معها في حال مرضها، وهذا لم يكن في هذه المرة)
إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُ وَيَقُولُ : " كَيْفَ تِيكُمْ ؟ "
(تيكم: اسم إشارة)
فَذَلِكَ [ الَّذِي ] يَرِيبُنِي، وَلَا أَشْعُرُ حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَمَا نَقَهْتُ، وَخَرَجَتْ مَعِي أُمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا، وَلَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُتَّخَذَ الْكُنُفُ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهِيَ ابْنَةُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمُّهَا أُمُّ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ
(ونشأ مسطح ابنها يتيما وكان أبوبكر ينفق عليه حتى بعدما كبر)
فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَابْنَةُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا
في شيء من ملابسها)
فَقَالَتْ : تَعِسَ مِسْطَحٌ، فَقُلْتُ لَهَا : بِئْسَ مَا قُلْتِ أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا ؟ قَالَتْ : أَيْ هَنْتَاهُ
(أسلوب نداء فيه لطف لمن به غفلة، وللمذكر أي هنَّاه)
أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ : قَالَتْ : قُلْتُ : وَمَاذَا قَالَ ؟ قَالَتْ : فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي، فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلِيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ : " كَيْفَ تِيكُمْ ؟ "، قُلْتُ : أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ ؟ قَالَتْ : وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ [ أَنْ ] أَتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجِئْتُ أَبَوَيَّ، فَقُلْتُ لِأُمِّي:
(أمها أم رومان)
يَا أُمَّهْ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ فَقَالَتْ : أَيْ بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا، وَلَهَا ضَرَائِرُ إِلَّا أَكْثَرْنَ عَلَيْهَا، قُلْتُ : سُبْحَانَ اللَّهِ أَوَقَدْ يُحَدِّثُ النَّاسُ بِهَذَا ؟ قَالَتْ : نَعَمْ قَالَتْ : فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لَا يَرْقَأُ
(لا يجفُّ)
لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ قَالَتْ : فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْوُدِّ لَهُمْ، فَقَالَ : [ يَا ] رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمْ أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا، وَأَمَّا عَلِيٌّ، فَقَالَ : لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرَةٌ وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ
(التي تخدم عائشة لقربها منها)
تَصْدُقْكَ قَالَتْ : فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ، فَقَالَ : " أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ مِنْ أَمْرِ عَائِشَةَ ؟ "، فَقَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدَّاجِنُ
(الشاة التي لا تخرج إلى المرعى)
فَتَأْكُلُهُ قَالَتْ : فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ السَّلُولِ قَالَتْ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : " يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي "
(يعني هل تعذروني إن أخذتُ حقي منه؟)
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ : أَعْذِرُكَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ قَالَتْ : فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَلَكِنَّهُ حَمَلَتْهُ الْجَاهِلِيَّةُ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ : لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلَنَّهُ
(لأن عبدالله بن أبي ابن سلول من الخزرج)
وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ، فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ : كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ قَالَتْ : فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ : وَمَكَثْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي قَالَتْ : فَبَيْنَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي، اسْتَأْذَنَتْ عَلِيَّ امْرَأَةٌ، فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي، فَبَيْنَمَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ قَالَتْ : وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ مَا قِيلَ وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ قَالَتْ : فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ : " أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ، ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ " قَالَتْ : فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أَحُسُّ مِنْهُ قَطْرَةً
(كأنها أرادت من النبي عليه الصلاة والسلام أن يذكر الاحتمال الثاني الذي ذكره من باب البيان والتذكير لأنه نبي هذه الأمة)
فَقُلْتُ لِأَبِي : أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ، فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ لِأُمِّي : أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ : وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ كَثِيرًا، وَإِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا الْأَمْرِ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ بَرَاءَتِي لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِذَنْبٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونِي، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ قَالَتْ : ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَأَنَا وَاللَّهِ حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي
(وهذا من حسن الظن بالله)
وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى، وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا قَالَتْ : فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَهُ (يعني ما فارق المجلس) وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْيِ حَتَّى أَنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ
(يعني اللؤلؤ وتقصد العرق)
فِي الْيَوْمِ الشَّاتِ مِنْ ثَقَلِ الْوَحْيِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ قَالَتْ : فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ، وَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ : " أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ أَمَا وَاللَّهِ قَدْ أَبْرَأَكِ اللَّهُ " . فَقَالَتْ لِي أُمِّي : قَوْمِي إِلَيْهِ، فَقُلْتُ : لَا وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي قَالَتْ : فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ عَشْرَ آيَاتٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي بَرَاءَتِي قَالَتْ : فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ : وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ
(ممن خاض في الإفك مسطح بن أُثَاثة وحسان بن ثابت وحَمْنة بنت جحش أخت زينب زوج النبي عليه الصلاة والسلام، فحلف أبو بكر ألا ينفق على مسطح)
فَأَنْزَلَ اللَّهُ
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ إِلَى قَوْلِهِ أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ قَالَ : وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا أَبَدًا قَالَتْ عَائِشَةُ : وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَمْرِي : مَا عَلِمْتِ أَوْ مَا رَأَيْتِ ؟ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا قَالَتْ عَائِشَةُ : وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي
(يعني تنافسني في المقام)
مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ، وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ ابْنَةُ جَحْشٍ تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ، قَالَ الزُّهْرِيُّ : " فَهَذَا مَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنْ أَمْرِ هَؤُلَاءِ الرَّهْطِ " .
المَجْلِسُ الثالث من مجالس تفسير سورة النور - تفسير آيات حادثة الإفك
تفسير آيات حادثة الْإِفْكِ
الحمدلله رب العالمين وصلِّ الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله أيها الإخوة الكرام مع ثالث حلقات تفسير سورة النور، ونبدأ في الصفحة الثانية.
يقول الله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ) عصبة أي جماعة، وأراد الله تعالى فيما يظهر التقليل؛ يعني قلة من المؤمنين هم الذين خاضوا في الإفك، (مِّنكُمْ) يعني من المسلمين، صحيح أن الذي تولى كبر ذلك رأس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول ولكن تبعه جماعة من المؤمنين فوقعوا في ذلك الإفك كان منهم حسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة، فيقول تعالى أن الذين جاءوا بالإفك (عُصْبَةٌ ) يعني جماعة قليلون (مِّنكُمْ) يعني كان لا ينبغي أن يخوضوا في مثل هذا الإفك فهذا إنحاء على الذين وقعوا في تلك المعصية، والإفك حقيقته نوع من الكذب، فالكذب منه البهتان وهو الذي يبهت سامعه من شدة الكذب، ومنه الإفك وهو كذب فيه قلب وتبديل للحقيقة، فبدل من أن نتكلم عن عائشةَ بالعفة والطهر والحصان والغفلة عن صنيع أهل السوء نتكلم عنها بتلك الفاحشة، فأفك أي قلب، والله تعالى سمى قرى قوم لوط المؤتفكة لأنه جعل عاليها سافلها أو لأنهم قلبوا فطرة الله من رغبة الرجال في النساء ورغبة النساء في الرجال.
عن هشام بن عروة، عن عروة: أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: كتبت إليّ تسألني في الذين جاءوا بالإفك، وهم كما قال الله: ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) وأنه لم يسمّ منهم أحدا إلا حسان بن ثابت، ومسْطَح بن أثاثة، وَحَمْنة بنت جَحْش، وهو يقال في آخرين لا علم لي بهم؛ غير أنهم عصبة كما قال الله.
(لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) يعني لا ينبغي للمؤمن وقد أصابته مصيبة وبلاء وقع عليه أن يسيء الظن بالله تبارك وتعالى، فإن ما يصيب المسلم لا يخلو من الخير إن قابل ما أصابه بالعبادة؛ لأن الله تعالى خلقنا في الدنيا لنعبده فما أصابنا من شر لو كنا من الصابرين وكنا من العابدين في هذا الشر فإن المقام يؤول إلى الخير، وأنت لا تدري ما في تضاعيف هذا الشر، فالناس تحسب أن هذا الإفك شر لكن كان من ورائه خير لعائشة ولآل أبي بكر ولأمة الإسلام كلها، وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة، ما في خير ليس فيه شر إلا في دار النعيم.
(لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) كبر الشيء هو معظم الشيء أي أكثر الشيء، كما قالت عائشة في حديث الإفك "وكان عبد الله بن أبي ابن سلول هو الذي يستوشيه" يعني ينقِّش عنه ويخرجه ويفشيه في الناس. (لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فهذا وعيد لهذا المنافق بالعذاب العظيم.
لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ (12)
لولا هنا بمعنى هلَّا، لولا تأتي بمعنيين؛ إمَّا بمعنى الشرط يعني يكون لها فعل شرط وجواب شرط، أو تأتي بمعنى التحضيض يعني ربنا يحض المؤمنين لو وقعت حادثة مثل هذه الحادثة ألا يكون سبيل المؤمن في هذه الحادثة مثل هذا، فلا نرى مثلا أعراض إخواننا المسلمين تنتهك ويخاض فيها وهم على خير وبركة ونسكت، لا؛ ينبغي أن ندافع عنهم وأن نذب عنهم، عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن بعض رجال بني النجار، أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أمّ أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أمّ أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك، قال: فلما نـزل القرآن، ذكر الله من قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ وذلك حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا، ثم قال: ( لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ )... الآية: أي كما قال أبو أيوب وصاحبته، فكان هذا موقف أبي أيوب الأنصاري وزوجته وجماعة كثر من المسلمين بخلاف الذين اتبعوا كلام المنافقين، (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا) لم يقل سبحانه بإخوانهم ولا بأم المؤمنين؛ بل قال بأنفسهم، الله يقول لك من يخوض في عرض أخيك كأنه خاض في عرضك وذَبُّك عن عرض أخيك كَذّبِّكَ عن عرض نفسك. (وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ) أي كان ينبغي أن يقولوا هذا الكلام قبل أن ينزل القرآن.
لَّوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
الله عز وجل يلوم المسلمين لأنه قد تقدم الحكم (وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ) فالحكم ثابت من قبل، وهم لم يأتوا على هذا الإفك بشهيد واحد فهم عند الله كاذبون.
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
يعني لولا أن الله تعالى تفضَّل على المؤمين وأنزل رحمته عليهم في الدنيا وفي الآخرة لكان أصاب المسلمين في هذه الحادثة عذاب عظيم، لكن الله تعالى تغمد المسلمين برحمته يعني الذين خاضوا في الإفك من المسلمين فإنهم تابوا إلى الله تعالى بعد نزول هذه الآيات والله تعالى قبل توبتهم، فإن سيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه كان يستاذن على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فكانت تاذن له فكانت تُلام في مثل هذا؛ كانوا يقولون لها تاذنين لهذا وقد قال ما قال فكانت تقول إنه كان يُدافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتنشد من شعر حسان فإن حسان له من الشعر في الدفاع عن النبي عليه الصلاة والسلام ما له، قال عروة، كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان، وتقول: إنه الذي قال:
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي * لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ.
رواه البخاري، وعن أبي الضحى عن مسروق قال دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعرا فقال:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ * وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِن لُحُومِ الغَوَافِلِ
فقالت له عائشة لكنك لست كذلك.
حصان أي محصنة، رزان من الرزانة والثبات، فليست كثيرة الخروج والدخول كسلوك الفاجرات، حصان رزان ما تزن بريبة يعني ما تُرمى بشبهة، وتصبح غرثى من لحوم الغوافل؛ غرثى يعني جوعانة من لحوم الغوافل يعني لا تخوض في أعراض المؤمنات الغوافل -جمع غافلة فواعل جمع فاعلة-، اللطيف أن عائشة كانت تداعبه في هذا البيت وتقول له ولكنك لست كذلك لِمَا خاض في عرضها.
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) أي تتلقون هذا الإفك بألسنتكم من لسان إلى لسان، حتى الذي لم يخض كان ينقل الكلام؛ يقول حسان يقول عن عائشة كذا وحمنة تقول عن عائشة كذا، ومسطح بن أثاثة يقول عن عائشة كذا وكذا، فتناقلوا الكلام، (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ) أي أن هذا القول لم يتجاوز اللسان فليس له حقيقة في الواقع ولا حقيقة في القلوب؛ يعني لم يطابق هذا القول واقعا ولا حقيقة إنما هو كان مجرد قول باللسان؛ كما قال الله تعالى في حق الذين قالوا المسيح ابن الله وعزير ابن الله قال (ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ) قول باللسان وما أسهل قول اللسان؛ قل ما تريد لكن الحقيقة على خلاف هذا، (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ) ممكن تقع كلمة مثلا في حق بعض المسلمين ويخوض الناس في عرض بعض المسلمين والناس يتناقلون هذه الكلمة أو ممكن الناس يتناقلون كلمة في حق حكم من الأحكام الشرعيه أو يتناقلون شبهة من الشبهات ويحسبون هذا الكلام هينا عند الله، والكلام له أثره العظيم حتى في الكفر والإيمان، فالإنسان يدخل الإسلام بكلمة وقد يخرج منه بكلمة، ولا شك أن هذا الكلم له دلالة على ما في قلوب الناس، "فان العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه" نسأل الله تعالى هذا الفضل يعني ممكن واحد يقوم مقاما في الدفاع عن الإسلام وأعراض المسلمين ويلهمه الله تعالى كلمة يكتب الله تعالى بها له رضوانه إلى يوم يلقاه، لكن دفعه إلى هذه الكلمة إيمانه بالله تعالى "وأن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه" لأنه قام مقاما قميئا لم ينصر فيه دين الله تعالى وكتابه وسنة نبيه.
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
كان ينبغي إذا سمعتم هذا الإفك أن تقولوا ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك، -سبحانك تعني تنزيها لك- هذا بهتان عظيم يعني كذب بين واضح عظيم في الافتراء على أم المؤمنين عائشة، سبحانك استخدمت في التعجيب؛ تقول سبحان الله عند التعجب قالوا لأن أصل هذا أن العرب كانوا يسبحون الله تعالى عندما يرون عجيبا من مخلوقاته؛ إذا رأى عجيبا من المخلوقات يقول سبحان الله، أن ربنا لا يعجزه أن يخلق ما يشاء؛ فهو يفعل ما يشاء ويخلق ما يشاء، ثم استخدمت في كل تعجب؛ أي توسع العرب في استخدام هذا التعجيب، لكن الأصل لو تأملت أنهم استخدموها في تنزيه الله تعالى عن أن يعجز عن أي عجيب فإذا رأوا عجيبا من خلقه نزهوه تبارك وتعالى عن العجز عن أن يأتي بالعجائب كلها في خلقه وفي صنعته تبارك وتعالى، فيجوز للمسلم أن يستخدم التسبيح عند التعجب، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لأبي هريرة لما انخنس منه وهو جنب فقال يا رسول الله كنت جنبا فاستحييت أن أجالس على غير طهارة، قال "سبحان الله إن المؤمن لا ينجس".
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (17)
هذا أيضا تحضيض على ترك مثل هذه الأقوال وموعظة من الله تبارك وتعالى، ويتعظ بهذا المؤمن إن كنتم مؤمنين، فهذا ليس شرطا وإنما حث على الفعل وتحضيض عليه، كقولك لو كنت رجلا فافعل كذا، فهذا حض على الفعل.
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
هكذا آيات القرآن العظيم نزلت بيانا للناس فبينت حكم مثل هذه الحادثة وبينت أن رمي أمهات المؤمنين بالفاحشة بهتان عظيم وإفك مبين، فبين الله تعالى آياتِه للناس، (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي فيما ينزل من آياته تبارك وتعالى، أنزل ذلك بعلمه وشرع ذلك بحكمته ثم توعد الله تعالى الذين يخوضون في تلك الأعراض الطاهرة فقال:
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَـٰحِشَةُ فِى ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۭ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْـَٔاخِرَةِ ۚ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (١٩)
مجرد محبة شيوع الفاحشة في المؤمنين يتوعد الله تعالى على ذلك بالعذاب، حتى لو لم يشع الفاحشة، مجرد أن يحب أن تشيع الفاحشة في المؤمنين متوعد بالعذاب الأليم، فلما تحدث حادثة مثلا فيها فسوق وفجور تراه سعيدًا مسرورًا، ويحب أن تُرمى المؤمنات بتلك الفواحش وأن يستسيغ الناس تلك الفواحش وتستسهلها، فهؤلاء توعدهم الله تعالى (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۭ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْـَٔاخِرَةِ) يعذبهم الله تعالى في الدنيا بما شاء، فيبتليهم بالمصائب وتنغيص من الأبناء والأموال والأولاد، يفعل الله تعالى ما يريد أو يعذبهم على أيدي الملائكة عند الموت. (وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) يعني يعلم ما يُصلح عباده ولأجل ذلك شرع تلك الشرائع.
وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ وَأَنَّ ٱللَّهَ رَءُوفٌۭ رَّحِيمٌۭ (٢٠)
من الإشارات العظيمة في آيات الإفك أن الله تعالى وسَّطها بآية ( وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) و ختمها بآية (وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ وَأَنَّ ٱللَّهَ رَءُوفٌۭ رَّحِيمٌۭ) إشارة إلى أن وقوع المعصية من المسلم أو من المؤمن عموما ليست نهاية الدنيا لأن الإنسان خُلق ضعيفا والنفس أمَّارة بالسوء وحتى ممكن تقع في عظيم من الإثم؛ فمن كان يتخيل أن حسان بن ثابت وهو من هو يقع في مثل هذا الإفك مثلا!! لكن الله تعالى يفتح باب التوبة للمؤمنين ويتغمدهم برحمته ويذكر لهم حسناتهم فينبغي للمؤمن إذا وقع في معصية ولو كانت كبيرة ألا يقنط من رحمة الله تعالى وألا ييأس من رحمة الله فإن أبواب رحمته عظيمة، إذا كان قد عفى عن الذين تكلموا في عرض عائشة رضي الله عنها وذكر لهم ما لهم من الإيمان والفضل، حتى آية (وَلَا يَأْتَلِ) فيها ثناء على مسطح كما سيأتي.
۞ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّبِعُوا۟ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَإِنَّهُۥ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًۭا وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌۭ( ٢١)
( يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّبِعُوا۟ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ) الشيطان يزين للناس المعاصي ويجرهم إليها شيئا فشيئا، أو خطوة بخطوة مين كان يتخيل مثلا أن فلانا يقع في معصية كذا؛ يقال لك فلان قتل مثلا أو زنى أو سرق تقول فلان يسرق! فلان يرتشي! نقول لك لأنه اتبع خطوات الشيطان، والشيطان أخذه خطوة بخطوة حتى زلت قدمه في تلك المعصية العظيمة. (وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَإِنَّهُۥ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ) الفحشاء هي يستفحشه الناس، قد يظن ظان بنفسه أنه لا يمكن أن يقع في فاحشة مستقبحة عند كل الناس، نقول له لو اتبعت خطوات الشيطان ستقع فيها وأنت راض وتكون داعية، حتى أن بعض المفسرين قال (فَإِنَّهُۥ يَأْمُرُ ) يعني المتبع وليس الشيطان، يعني لما يتبع خطوات الشيطان سيأمر بالفحشاء التي كان يستفحشها مع الناس، والمنكر الذي كان ينكره والمجتمع كله ينكره يأتيه ويقع فيه، فالشيطان يزين للناس المعصية العظيمة لكن شيئا فشيئا، يجرهم إليها شيئا فشيئا، ونفس الشيطان طويل يخطط لمئات السنين، لو سمعت مثلا ما عليه الغرب من المثلية الجنسية أول ما تسمع؛ فحشاء عظيمة والشيطان جرهم إلى ما هو أشد من ذلك يعني دلوقتي طالعين للاطفال الابتدائي في المدارس يعلمونهم الفارق بين "الجنس البيولوجي" و"الجنس الاجتماعي" فيخيرون الطفل الصغير -خمس سنين ست سنين سبع سنين- يقولون له تحب تختار ؟! تريد أن تكون ولد -ذكر- ولا بنت؟! ولو أراد غير جنسه يعملون له عملية تحويل! ويمنعون الزواج تحت سن 18، الزواج تحت سن 18 جريمة والتحول الجنسي عند سن 10 سنين حرية، لا يجوز للأب أن يمنع ابنه منه، لو الأب قال ابني يبقى ذكرا كما خلقه الله أو بنت كما خلقها الله يُسجن! ففحشاء ومنكر بين واضح لكل عقلاء الدنيا ومع ذلك اتباع خطوات الشيطان أرداهم في تلك المهاوي حتى أصبح المنكر لها يسجن ويعاقب لأنه بمنع تلك الفحشاء وهذا المنكر. فلا تستصغر المعصية وتقول صغيرة من الصغائر، المشكلة أنها خطوة ويأتي بعدها خطوات؛ خطوة تجر خطوة حتى تصل إلى الفحشاء وإلى المنكر. (وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًۭا) فينبغي أن نعتصم بالله تعالى وأن نطلب الهدى من الله فإن فضل الله تعالى ورحمته هي التي تزكي العباد، فلا تعتمد على حولك وقوتك، "كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم". (وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌۭ) أيضا يقول الله لك اجتهد في طلب التزكية فإني سميع لأقوال عبادي عليم بنياتهم، فمن يدعو الله بتضرع وتكون نيته صالحة ويطلب الهدى من الله ربنا يزكيه ويوقفه على صراط مستقيم (مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الأنعام: 39).
وَلَا يَأْتَلِ أُو۟لُوا۟ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوٓا۟ أُو۟لِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينَ وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا۟ وَلْيَصْفَحُوٓا۟ ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌ( ٢٢)
هذه الآية نزلت لما سيدنا أبو بكر حلف ألا ينفق على مسطح، ولسان حاله:
وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً عَلَى النَّفْسِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّدِ
كأنه يقول كفلتك يتيما وكبيرا، ينفق عليه حتى بعدما كبر، يقول: ولما يأتي أمر لم نعرفه في الجاهلية -يعني كيف وقد أعزنا الله بالإسلام- تكون أنت يا مسطح أول الخائضين في هذا الأمر والله لا أنفعه بنافعة أبدا، وحلف ألا ينفق على مسطح، فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَلَا يَأْتَلِ) يعني ولا يحلف (أُو۟لُوا۟ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ) هو سيدنا أبو بكر؛ صاحب فضل في الأخلاق وسعة في الأموال (أَن يُؤْتُوٓا۟ أُو۟لِى ٱلْقُرْبَىٰ) لأن أم مسطح بنت خالة أبي بكر (وَٱلْمَسَـٰكِينَ) لأن مسطحا كان مسكينا (وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ) ومسطح كان من المهاجرين بل كان بدريا، لما عائشة قالت لأم مسطح "اتسبين رجلا شهد بدرا". (وَلْيَعْفُوا۟ وَلْيَصْفَحُوٓا۟) ربنا يحث أبا بكر ومن شابهت حالته حالة أبي بكر، فأنت ممكن تكون عندك أقارب فقراء تعطيهم وتنفق عليهم وفجأة تجدهم يتكلمون فيك بالسوء أو في أبنائك، فتقول لا أعطيهم ولا أنفق عليهم وغيرهم أولى منهم، فالله يقول: (وَلَا يَأْتَلِ أُو۟لُوا۟ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوٓا۟ أُو۟لِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينَ وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا۟ وَلْيَصْفَحُوٓا۟ ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌ) قال أبو بكر بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي ورجع إلى مسطح النفقة وحلف ألا يقطعها عنه. عبد الله بن المبارك يقول في هذه الآية هذه أرجى آية في كتاب الله وهذا نظر دقيق من سيدنا عبد الله بن المبارك في هذه الآية وقد نظرتُ خلفه فوجدت فيها ثلاث مواضع دفعت عبد الله بن المبارك إلى هذا القول، أولا قوله تعالى (وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ) فوصف مسطح بالهجرة وقد خاض في هذا الإفك يعني أن الله تعالى يحفظ حسنات المسيئين ومسطح أساء أيما إساءة ومع ذلك لما ربنا ذكره قال عنه (وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ) ذكر له الهجرة فمعنى هذا أن الإنسان لو خلط عملا صالحا وآخر سيئا فان الله تعالى يحفظ له حسناته ولا يضيعها، وقوله تعالى ( أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ ) لا شك أن هذا من تودد الله تعالى الغفور الرحيم لعباده، وقوله تعالى (وَلْيَعْفُوا۟ وَلْيَصْفَحُوٓا۟) يعني إذا أمر الله تعالى بالعفو والصفح في هذا المقام فكيف يكون عفوه وصفحه، فلأجل هذا قال عبد الله بن المبارك هذه أرجى آية في كتاب الله.
إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْغَـٰفِلَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ لُعِنُوا۟ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْـَٔاخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌۭ (٢٣)
هذه الآية ختام قصة الإفك ولو قرأت في التفاسير ستجد فيها خلاف، هل هي في حق أمهات المؤمنين ولا في حق المؤمنات عامة، ابن عباس له كلمة جميلة قال هي في حق عائشة وأمهات المؤمنين وهي مبهمة يعني لم تسم أحدا فتشمل كل من يدخل في هذا العموم، كلمة مبهمة عند السلف معناها عامة ليست خاصة بأحد، الآية نزلت فيهن نعم لكنها مبهمة. (ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ) في أول مجلس تكلمنا عن تعريف الإحصان وقلنا أنه يأتي في القرآن على أربع معاني؛ الإسلام والعفاف والحرية والزواج، وفي اللغة حصن يعني شيء يمنع نقول فلان تحصن بحصن يعني امتنع مننا بحصن، فما الذي يمنع المحصنات من الفاحشة من الزنا إما الحرية كما قالت هند أو روي عنها أنها قالت أو تزني الحرة وإمّا العفاف أنها امرأة عفيفة في نفسها، وإمّا الزوج أنها تزوجت فتحصن بزوجها، وإمّا الإسلام لأن الإسلام مانع لأهله -فليس كعهد الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل، لما أسلم ودعته إلى الفاحشة يقول لها هذا عهد قد انتهى، أحاطت بالرقاب سلاسل الإسلام، أسلمنا فأصبح في قيود وعبودية لله تبارك وتعالى-، الآية التي في الصفحة الأولى (والذين يرمون المحصنات) يعني الإسلام والحرية والعفاف؛ فمن يرمي مسلمة حرة عفيفة يدخل في هذا الحكم سواء كانت ذات زوج أو بكرا أو ثيبا، أما آية النساء مثلا ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ) معناها المتزوجات ذوات الأزواج، والآية (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) يعني الحرائر، آية المائدة (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) يعني العفائف، فكل موضع من القرآن له معنى على حسب السياق. فهنا (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْغَـٰفِلَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ) الإحصان هنا الإسلام والحرية والعفاف، الغافلات يعني عن صنيع أهل السوء، إذا كان بعض الصالحين ممن لهم دراية بأمور الدنيا وحوادثها إذا سمع عن صنيع أهل السوء استعجب فكيف بالنساء الغافلات، والله تعالى لم يمدح الجهل -ربما- إلا في هذا المقام. (لُعِنُوا۟ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْـَٔاخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌۭ ).
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ (٢٤)
هذه الآية فارقت آية فصلت والحديث المروي عن النبي عليه الصلاة والسلام، آية فصلت فيها:
(وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَآ أَبْصَٰرُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ) الجلود والاسماع و والابصار هذا معقول، وحديث النبي عليه الصلاة والسلام عند مسلم: كُنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَضَحِكَ، فَقالَ: هلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟ قالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسولُهُ أَعْلَمُ، قالَ: مِن مُخَاطَبَةِ العَبْدِ رَبَّهُ؛ يقولُ: يا رَبِّ، أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قالَ: يقولُ: بَلَى، قالَ: فيَقولُ: فإنِّي لا أُجِيزُ علَى نَفْسِي إلَّا شَاهِدًا مِنِّي، قالَ: فيَقولُ: كَفَى بنَفْسِكَ اليومَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الكَاتِبِينَ شُهُودًا، قالَ: فيُخْتَمُ علَى فِيهِ، فيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قالَ: فَتَنْطِقُ بأَعْمَالِهِ، قالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بيْنَهُ وبيْنَ الكَلَامِ، قالَ: فيَقولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا؛ فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ، أما هنا في هذه الآية (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ) كيف ألسنتهم؟! يعني يشهد اللسان بصفة غير التي كان يتكلم بها في الدنيا حتى المشاهد له يعرف أن المتكلم هنا ليس الشخص وإنما الجارحة اللسان، قالوا مثلا تراه فاتحا فاه ولسانه خارج من فمه ويتكلم اللسان، فاللسان هنا يشهد لأنه الذي تولى كبر المعصية فهو أكثر عضو خاض فيها، (وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم) لأنهم سعوا في الإفك بأيديهم وأرجلهم.
يَوْمَئِذٍۢ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ (٢٥)
(دِينَهُمُ ) يعني جزاءهم ، يوم الدين يعني يوم الجزاء، الدين يأتي بمعنى الجزاء، كما تدين تدان تدان فكما تجازِي الناس وتعاملهم تجازَى، الله تعالى من أسمائه الديان "أنا الملك أنا الديان" يعني من يجازي عباده بالحق (يَوْمَئِذٍۢ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ) يعني جزاءهم الحق.
(وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ) يعني الحق الواضح الذي لا يضيع عنده حق، هم كسبوا سيئات في الدنيا ونسوا أحصاه الله ونسوه يظنون أن حقوق العباد تضيع، لا، في الآخرة لما يقوم الملك العدل بالحكم بين العباد ستعرف حينئذ أن الله هو الحق المبين ما في حق يضيع، كما في الحديث الصحيح "يَحشُرُ اللهُ العبادَ أو قال يَحشُرُ اللهُ الناسَ قال وأوْمَى بيدِه إلى الشامِ عُراةً غُرْلًا بُهْمًا قال قلتُ ما بُهْمًا قال ليس معهم شيءٌ فينادِي بصوتٍ يسمعُه من بَعُدَ كما يسمعُه من قَرُبَ أنَا الملِكُ أنَا الدَّيَّانُ لا ينبغي لأحدٍ من أهلِ الجنةِ أن يَدخلَ الجنةَ وأحدٌ من أهلِ النارِ يُطالبُه بمظلَمَةٍ ولاينبغي لأحدٍ من أهلِ النارِ أن يَدخلَ النارَ وأحدٌ من أهلِ الجنةِ يُطالبُه بمظلَمَةٍ قالوا وكيف وإنَّا نأتي عُراةً غُرْلًا بُهْمًا قال بالحسناتِ والسيئاتِ" فهذا الديوان ديوان المظالم لا يترك الله منه شيئا، ممكن السيئات التي بينك وبين الله يعفو الله تعالى عنها، لكن حقوق العباد لا، (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ).
ٱلْخَبِيثَـٰتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَـٰتِ ۖ وَٱلطَّيِّبَـٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَـٰتِ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌۭ وَرِزْقٌۭ كَرِيمٌۭ (٢٦)
(ٱلْخَبِيثَـٰتُ لِلْخَبِيثِينَ) أي النساء الخبيثات للرجال الخبيثين (وَٱلْخَبِيثُونَ) من الرجال (لِلْخَبِيثَـٰتِ) من النساء (وَٱلطَّيِّبَـٰتُ) من النساء (لِلطَّيِّبِينَ) من الرجال (وَٱلطَّيِّبُونَ) من الرجال (لِلطَّيِّبَـٰتِ) من النساء (أُو۟لَـٰٓئِكَ) يعني الطيبون والطيبات (مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) يعني مما يقول فيهم أهل الإفك. (لَهُم مَّغْفِرَةٌۭ وَرِزْقٌۭ كَرِيمٌۭ ) يعني هؤلاء يغفر الله تعالى لهم ذنوبهم ويرزقهم رزقا كريما وهو رزق الجنة، والتكرار هنا للإطناب حتى يصير هذا مضربا للمثل. وهذا أمر للغالب ثم أن الله تعالى سنَّه في العباد أن تكون الخبيثات صاحبات الأخلاق الفاسدة للخبيثين من الرجال، وأن تكون الطيبات للطيبين من الرجال، وهذا طبعا دفاع عن عرض النبي عليه الصلاة والسلام اذا كان هو أطيب الطيبين فلا شك أن تكون عائشة كذلك أطيب الطيبات، أمّا إذا اختل هذا القانون أحيانا وتزوج رجل طيب من امرأة خبيثة فإما أن يطيبها الله تعالى له بعد الزواج وهذا يحدث كثيرا ويُشاهد في الناس وإما أن يفترقا ولا يستمر هذا الزواج لأنه لو علم أنها خبيثة فإنه لا يرضى هذا الخبث في أهله فإما أن يمنعها من هذا الباطل وإما أن يفارقها.
مسألة: هل حدَّ النبي عليه الصلاة والسلام الذين خاضوا في الإفك؟
روي عن عائشة أنها قالت: "لما نزل عُذري قام النبيُّ– صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – على المنبرِ، فذكر ذلكَ، فلما نزل أمرَ بالرجلَيْنِ والمرأةِ، فضُرِبوا حدَّهُم"
الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : الألباني | المصدر : هداية الرواة, الصفحة أو الرقم : 3512 | خلاصة حكم المحدث : فيه عنعنة ابن إسحاق -وهو مدلس-، وحسنه الألبانى فى موضع آخر.
التخريج : أخرجه أبو داود (4474) واللفظ له، والترمذي (3181)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (7351)، وابن ماجه (2567)، وأحمد (24066)
وقال ابن القطان في الوهم والإيهام فيه ابن إسحاق مختلف فيه.
ولذا لم يعتمد جماعة من العلماء على هذه الرواية، ونسب ذلك صاحب التحرير والتنوير إلى الأكثر فقال في تفسير قوله تعالى (ولولا فضل الله عليكم ورحمته فى الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم)قال: وهذه الآية تؤيد ما عليه الأكثر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد حد القذف أحدا من العصبة الذين تكلموا في الإفك. وهو الأصح من الروايات: إما لعفو عائشة وصفوان، وإما لأن كلامهم في الإفك كان تخافتا وسرارا ولم يجهروا به ولكنهم أشاعوه في أوساطهم ومجالسهم. وهذا الذي يشعر به حديث عائشة في الإفك في صحيح البخاري.
فالله أعلم
المَجْلِسُ الرابع من مجالس تفسير سورة النور
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا اله الا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم أما بعد فهذه هي الحلقة الرابعة من تفسير سورة النور وقد وقفنا عند آيات الاستئذان:
يقول الله تعالى
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
فلما كانت سورة النور افتتحت بالنهي عن فاحشة الزنا فإنّ الله تعالى يسد الأبواب إلى تلك الفاحشة،
من رحمة الله تعالى أنه إذا حرّم شيئا حرّم الأسباب المفضية إليه، كي لا يكون للشيطان سبيل أن يجرك إلى تلك المعصية،
فنزلت آداب الإستئذان؛
وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام "إنَّما جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِن أجْلِ البَصَرِ"، لأن البصر رائدُ القلبِ إلى الشهوة وهو بداية الوقوع في الفاحشة.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) خرج بقوله تعالى غير بيوتكم بيوتكم يعني ادخلوا بيوتكم بغير استئذان، لكن غير بيوتكم (حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا) ليس فقط حتى تستأذنوا،
لأن الاستئناس استئذان وزيادة، استئذان مع إيناس؛ مع إزالة الوحشة، فحتى تستأنسوا يعني حتى تستأذنوا استئذانا حسنا فيه إيناس وليس فيه وحشة،
ربنا تبارك وتعالى قال (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) من الأُنس،
وسيدنا عمر لما دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وهو غضبان فقال "قُلتُ وأَنَا قَائِمٌ: أسْتَأْنِسُ ؛
يا رَسولَ اللَّهِ، لو رَأَيْتَنِي وكُنَّا -مَعْشَرَ قُرَيْشٍ- نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المدينة فإذا هم قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ،
فَتَبَسَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ،
ثُمَّ قُلتُ: لو رَأَيْتَنِي ودَخَلْتُ علَى حَفْصَةَ، فَقُلتُ: لا يَغُرَّنَّكِ أنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هي أوْضَأَ مِنْكِ، وأَحَبَّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -يُرِيدُ عَائِشَةَ- فَتَبَسَّمَ تبسمة أُخْرَى،
فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ"،
لما استأنس والنبي عليه الصلاة والسلام كان مغضبا وحصل الإيناس والرسول تبسم مرتين سيدنا عمر تبسّط في الكلام وجلس.
(وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا) من آداب الاستئذان أن تسلم، جاء الحديث "أنَّ رجلًا من بني عامرٍ استأذنَ علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وَهوَ في بيتٍ فقالَ أألجُ فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لخادمِه اخرج إلى هذا فعلِّمهُ الاستئذانَ فقلَ لَه قل السَّلامُ عليكم أأدخلُ فسمعَه فقالَ السَّلامُ عليكم أأدخلُ فأذنَ لَه النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ – فدخلَ" ففي الحديث السلام قبل الاستئذان، لكن هذا متخيل في الخيام مثلا أو البيوت بغير أبواب كمخيمات اللاجئين مثلا مخيمات منى فإن الخيام ليس لها تلك الأبواب الموصدة، فأنت في هذه الحالة تقول كما جاء هذا الحديث؛ السلام عليكم أأدخل. أما إذا كانت الأبواب موصدة فالإنسان مضطر أن يبدأ بالاستئذان قبل السلام فإن رد عليه فإنه يسلم. لذلك الآية جاءت بواو العطف (حتى تستأنسوا وتسلموا) فجاء تأخير السلام وكأن الله تعالى بعلمه المحيط يشير إلى أن هذا سيؤول إليه الحال؛ لأن بيوت العرب لم تكن كلها أبواب موصدة بل بالعكس، حتى وردت آثار في الاستئذان أن بعض العرب كان يدخل البيت ويجلس ثم يسلم! فنزلت تلك الآداب، فلأن الله تعالى يعلم أن الأمر سيؤول إلى ما آل إليه من أبواب موصدة فبدأ بالاستئذان؛ وهو الأصل، كي لا يشكل عليك الحديث أن جاء فيه السلام قبل الاستئذان؛ فهذا في حالة أن الأبواب مفتوحة فتقول السلام عليكم أأدخل، أما إذا كانت الأبواب مؤصدة مغلقة فأنت تبدأ بالاستئذان كما سيأتي في حديث أبي موسى وكما هو صنيع الناس اليوم،
ونحن نقول أن الاستئذان واجب وأن السلام مستحب.
(ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي في هذه الأحكام خير لكم؛ من غض الأبصار وعدم الاطلاع على العورات وعدم إفزاع أهل البيت بالدخول عليهم بغير إذنهم (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) يعني تتعظون بأحكام الله تعالى العظيمة الجليلة التي نزّلها في كتابه،
ولو ذكرت معنى الذكرى التي ذكرناها في أول حلقة فإن هذا يؤيدك في هذا المعنى، أن تقول حكم الاستئذان وكأنك تعلم أن هذا الحكم من الفطرة التي فطر اللهُ الناسَ، في أول آية في قوله تعالى (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) قلنا أن الله تعالى سمى العلم بعد الجهل ذكرى لأن أحكامه تبارك وتعالى وافقت الفطرة السليمة فأنت لما تتعلم بعد جهل تظن أنك تذكرت بعد نسيان، كأنك تأنس لهذه الأحكام ولا تستوحشها؛ لأن الله تعالى هو الحق ولا يقول إلا الحق وقد فطر الناس على هذا الحق وديننا ليس فيه آصار ولا أغلال، رفع الله تعالى الحرج في دين الإسلام.
فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ ۖ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
(فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا) ذهبت إلى مكان مثلا والأبواب كما قلنا في أماكن كالمخيمات وغيرها غير مغلقة فهل يحق لي أن أدخل لأن الاستئذان من أجل البصر ولا أحد في البيت فلن أطلع على عورات أحد؛ فأدخل؟، لا؛
لأن العورة ليست فقط عورة الإنسان بل البيوت نفسها لها حرمة ولها عورة، فأهل البيت يستصلحون الأماكن قبل أن تدخل، لا يريدونك أن ترى البيت إلا على صورة معينة، لذلك إن لم تجدوا في البيوت أحدا فلا تدخلوها.
(حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ) حتى يجيء أهل هذه البيوت فيأذنوا لكم.
(وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) هذا أدب من آداب القرآن العظيمة، أنك إذا أُمرت بالرجوع ترجع، والله يقول لك (هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ) هو أطهر وأحسن أن ترجع لأن صاحب البيت له حق في بيته وله خصوصية في هذا البيت.
قال قتادة: قال بعض المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها: أن أستأذن على بعض إخواني، فيقول لي: "ارجع"، فأرجع وأنا مغتبط [لقوله]، (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم).
والسنة النبوية جاءت بما هو أوسع؛ وهو ليس شرطا أن يُقال لك ارجع؛ فلو استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لك كأنه قيل لك ارجع، يعني سنة النبي عليه الصلاة والسلام رفعت الحرج عن صاحب البيت أن يقول لك ارجع.
أبو سعيد الخدري يقول : كنا في مجلس أبي بن كعب ، فأتى أبو موسى مغضبا حتى وقف ، وقال : أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : الاستئذان ثلاث فإن أذن لك ، وإلا فارجع قال أُبي : وما ذاك ؟ قال : استأذنت على عمر أمس ثلاث مرات ، فلم يؤذن لي فرجعت ، ثم جئت عليه فأخبرته أني جئت أمس فسلمت ثلاثا ، ثم انصرفت ، قال : قد سمعناك ، ونحن حينئذ على شغل ، فلو استأذنت حتى يؤذن لك، قال: استأذنت كما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : والله لأوجعن ظهرك وبطنك ، أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا فقال أبي : والله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا ، الذي يجيبك ، قم يا أبا سعيد ، فقمت حتى أتيت عمر فقلت : قد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا
فقال عمر خفي علي هذا من أمر رسول الله ألهاني الصفق بالأسواق،
سيدنا عمر كان من الملازمين لكن السنة قد تخفى على أكابر العلماء حتى تخفى على أكابر الصحابة، والمقدم هو قول النبي عليه الصلاة والسلام.
البيوت التي هي لكم يعني فيها زوجتك فهذه لا تستأذن فيها، لكن جاء الأدب الحسن عن عبد الله بن مسعود وترويه زينب زوجته أنه كان إذا وقف على الباب تنحنح وبزق وتأخر وحك رجليه في الارض تقول زينب حتى لا يرى منا أمرا يكرهه، وهذا من الأنس، يعني هو لا يريد أن يراها في منظر هي لا تحب أن يراها عليه، وإذا كان الحكم يدور مع علته وجودا وعدما فإذا كنت تعلم أنك سترى ما تكره على كل حال فهذا الأدب ليس هذا محله،
لكن طبعا نساؤكم لا ترون منهن ما تكرهون، فهذا الأدب مع أمثال نسائكم حسن إن شاء الله.
لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
يعني مثلا مصلحة حكومية أو متجر أو محل من المحلات ولك فيه منفعة هنا لا تستأذن، لأن هذه الأماكن غير مسكونة، هي مأهولة بالناس لكنها غير مسكونة فليس فيها من يضع ثيابه وتنكشف عورته، فكل هذه الأماكن تدخل فيها بغير استئذان.
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) يعلم ما أظهرتم وما أخفيتم، اطَّلَعَ رَجُلٌ مِن جُحْرٍ في حُجَرِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ به رَأْسَهُ، فَقالَ: "لو أعْلَمُ أنَّكَ تَنْظُرُ، لَطَعَنْتُ به في عَيْنِكَ، إنَّما جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِن أجْلِ البَصَرِ". فمن يريد التلصص على العورات فالله تعالى يعلم ما في قلبه، فالله تعالى شرع أحكام الاستئذان لأجل البصر؛ لأجل ألا تظهر العورات أمام الناس، فمن كان في قلبه مرض ويطلع على عورات الناس فقد ورد في الصَّحيحينِ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «من اطَّلع في بيتِ قومٍ بغَيرِ إذنِهم، فقد حَلَّ لهم أن يَفقَؤوا عَينَه».
والظاهر والله أعلم أن قوله تعالى (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) تذييل للآيات الثلاث، وليس تذييلا للآية التاسعة والعشرين فقط، إنما تذييل لآيات الاستئذان كلها؛ يعني تذييل للموضوع كله.
قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
هذه الآية يأمر الله تعالى فيها نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لنا غضوا من أبصاركم (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) ليس قل للمؤمنين غضوا؛ في تقدير هنا أنه قال غضوا فهم غضوا يعني امتثلوا الأمر، فالجزم هنا على تقدير جواب الأمر. فالواجب لما يأتيك هذا الخبر والأمر من النبي عليه الصلاة والسلام أن تسرع في الامتثال.
(وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ) يعني أطهر وأنمى لإيمانهم.
الغض من الشيء هو النقص منه، قال لقمان لابنه: (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) يعني اخفض من صوتك، فغض من بصرك يعني اخفض من بصرك؛ يعني قلل إطلاق البصر،
قال الحافظ ابن كثير: «هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرِّم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على مُحرَّم من غير قصد، فليصرف بصره عنه سريعًا»،
الأحاديث وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا منها عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن جده جرير بن عبد الله البجلي ، رضي الله عنه ، قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم ، عن نظرة الفجأة (نظرة إلى محرم دون قصد ولا تعمد)، فأمرني أن أصرف بصري، رواه مسلم،
ومن لطيف ما يروى في هذا ما رواه الاوزاعي قال : حدثني هارون بن رئاب أن غزوان وأبا موسى الأشعري كانا في بعض مغازيهم ، فكُشفت جارية فنظر إليها غزوان ، فرفع يده فلطم عينه حتى نفرت ، فقال : إنك للحاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك ؛ فلقي أبا موسى فسأله فقال : ظلمت عينك ، فاستغفر الله وتب ، فإن لها أول نظرة وعليها ما كان بعد ذلك. وفي معناه الحديث الحسن المروي عن النبي عليه الصلاة والسلام: "يا عليُّ ! لا تُتبعِ النَّظرةَ النَّظرَةَ، فإنَّ لَكَ الأولى ، ولَيسَتْ لَكَ الآخرَةُ"،
يعني إن وقع بصرك على شيء محرم من غير قصد فالله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها أما أن تتعمد النظر وتديم النظر وتطيل النظر فهذا مكتوب عليك ومؤاخذ به،
والنبي عليه الصلاة والسلام عدّ النظر إلى المحرمات زنا؛ فقد روى مسلمٌ في صحيحه مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كُتِب على ابن آدم نصيبَه من الزنا، مُدرِكٌ ذلك لا محالة؛ فالعينانِ زناهما النظر (يعني النظر إلى المحرمات زنا)، والأذنان زناهما الاستماع (يعني التلذذ بالسماع إلى النساء)، واللسان زناه الكلام (يعني التلذذ بالكلام مع النساء)، واليد زناها البطش (اللمس)، والرِّجْل زناها الخُطى، والقلبُ يهوى ويتمنَّى، والفرج يصدقُ ذلك ويُكذِّبه"
يعني الفرج لو صدق ذلك بالزنا فهذا هو الزنا الحقيقي الذي عليه الحد، وما دون ذلك هو من الزنا يسمى زنا لكن من الزنا الذي هو دون الزنا.
وقوله عليه الصلاة والسلام كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة هذه كتابة كونية يعني أن الله تعالى قدّر أن يقع الناس جميعا في تلك المعصية؛ فكل واحد يدرك من هذه المعصية ما يدرك؛ لكن الإنسان يؤاخذ طبعا لأن الكتابة الكونية غير الكتابة الشرعية، وكتب شرعا (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) فالكتابة الكونية أن الله عليم أن الإنسان ضعيف؛ وواقع في تلك المعصية لا محالة، لذلك ختم الله الآيات بقوله (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فكون الإنسان يقع في تلك المعصية ليس مبررا أن يتمادى فيها؛ بل الواجب عليه أن يتوب.
النبي عليه الصلاة والسلام أيضا لما نهى الصحابة كما في الصحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم والجلوس على الطرقات " . قالوا : يا رسول الله ، لا بد لنا من مجالسنا ، نتحدث فيها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أبيتم ، فأعطوا الطريق حقه " . قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال : " غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".
وغض البصر كان من آداب الجاهلية لكن الجاهلية عرفته في الجيران، قال عنترة:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي * حتى يواري جارتي مأواها
فمن مروءة أهل الجاهلية عدم الاطلاع على جارته إن مرت في طريقه حتى يواري جارتي مأواها، لكن الإسلام جاء بغض البصر عن المحرمات كلها وليس فقط الجارة ، (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) يعني عن المحارم كلها؛ لأن النظر باب إلى القلب:
كل الحوادث مبدؤها من النظر ::: ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها ::: فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والعبد ما دام ذا عين يقلبها ::: في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته ::: لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
الغيد جمع غيداء هي المرأة حسنة القوام، لا مرحبا بسرور جاء بالضرر يعني لا ينبغي للمؤمن أن يكون هذا سلوكه وإنما المؤمن يغض بصره حتى يغلق أبواب الشيطان على نفسه.
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
ماذا استفدت غير الحسرة والندامة، أنت مثلا نظرت للجميلات وأنت لا تجد لهن سبيلا، فماذا استفدت! الأولى أن تغلق هذه الأبواب على نفسك بغض البصر.
حديث الفضل بن عباس من الأحاديث الجميلة في غض البصر، عَنْ عبداللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ، أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ..... صحيح مسلم
فقال العباس: يا رسول الله؛ لويت عنق ابن عمك، قال: رأيت شابا وشابة، فلم آمن عليهما الشيطان ـ
مسند أحمد،
قوله تعالى (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) من رحمته تعالى أن قال "من" ومن هنا للتبعيض وورد عن السلف صريحا أن "من" هنا للتبعيض،
في قوله تعالى (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) لم يقل ويحفظوا من فروجهم فهذه ليس فيها تبعيض،
لكن النظر فيه مباح كنظر للضرورة أباحه الله تعالى وكنظر الفجأة مثلا فهذه خارج التكليف أصلا، أما في التكليف يعني فيما أنت مخير فيه لو فصلناه فمنه:
نظر إلى عورة فأنت مأمور بغض البصر عن العورات؛ هذا متفق عليه بشهوة أو بغير شهوة، حتى لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة؛ لا يجوز قولا واحدا سواء وجدت شهوة أو لم توجد شهوة، وبشهوة طبعا أشد حرمة.
طيب النظر إلى وجه المرأة أو كفيها لحاجة البيع والشراء والأخذ والعطاء والتطبب ونظر الخاطب إلى المخطوبة، كل هذه الأمور فيها رخصة، والإنسان يحرص ألا توجد منه الشهوة فإن وجدت منه الشهوة وجب علي أن يغض بصره ما استطاع. (نظر الخاطب إلى المخطوبة مستحب على أقل درجاته حتى يرتضيها، انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما، إذا خطب أحدكم امرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل، سيدنا جابر كان يختبئ للمخطوبة حتى يرى منها يعني ما يدعوه إلى نكاحها، فإن رأى منها ما يدعوه إلى نكاحها وارتضاها زوجة فليس له أن ينظر إليها).
النظر إلى غير عورة بغير شهوة لغير حاجة، هي مثلا جارة ليست من محارمي لكن تربينا معا مثلا، هذه المسألة مما اختلف فيها العلماء،
شيخ الإسلام ابن تيمية في كلام له :
هل يحرم النظر إلى وجه الأجنبية لغير حاجة، أجنبية يعني ليست من المحارم، هل يحرم النظر إلى وجه الأجنبية لغير حاجة، يقول: رواية عن الإمام أحمد: يُكره ولا يحرم. وقال ابن عقيل: لا يحرم النظر إلى وجه الأجنبية إذا أمن الفتنة. انتهى قلت (المرداوي): وهذا الذي لا يسع الناس غيره، خصوصاً للجيران والأقارب غير المحارم الذين نشأ بينهم، وهو مذهب الشافعي...
إذن هذه المسألة فيها أقوال للائمة منهم من قال بالكراهة، ومنهم من قال بالإباحة ومنهم من قال بالتحريم. لكن الظاهر إذا كان النظر لغير شهوة وكان لعادة وليس لحاجة فنقول كما قال المرداوي هذا الذي لا يسع الناس العمل إلا به، هذا النظر إذا لم يكن بشهوة وريبة فهو مباح لا حرمة فيه، لكن لو استطاع أن يتجنب فضول النظر فهذا أحسن. نحن نقول هذا الكلام حتى لا نحرِّج على أهل التقى، فنقول لهؤلاء المتقين خففوا على أنفسكم بقول الله تعالى (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) أن من هاهنا للتبعيض فإذا احتجت إلى النظر لبيع وشراء وأخذ وعطاء للحاجة والعادة فإن الله تعالى رخّص في هذا، أما من دونهم -وهم أكثر الناس- فيغضوا أبصارهم ما استطاعوا، خاصة ونحن في زمان قل فيه من يغض بصره وكثرت فيه الفتن.
من الأحاديث العظيمة الواردة في هذه المسألة قول النبي عليه الصلاة والسلام عند البخاريُّ وغيره عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُباشِر المرأة المرأة فتنعَتها لزوجِها كأنه ينظر إليها" هذا أهون من النظر، امرأتك تصف لك امرأة أجنبية؛ تصف جسمها أو شعرها مثلا فهذا لا يجوز، نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام نهيا صريحا.
(وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) يعني عن الزنا، وبعض السلف قال يحفظوها عن أن يطلع عليها غيرهم، يعني يحفظوا العورات، عن بهزِ بنِ حكيمٍ عن أبيه عن جدِّه قال قلتُ يا رسولَ اللهِ عوراتُنا ما نأتي منها وما نذرُ قال "احفظْ عورتَك إلا من زوجتِك أو ما ملكت يمينُكَ قال قلتُ يا رسولَ اللهِ إذا كان القوم بعضُهم في بعضٍ (قافلة أو رحلة أو معسكر مثلا) قال إنِ استطعتَ أن لا يَرينَّها أحدٌ فلا يَرينَّها قال قلتُ يا رسولَ اللهِ إذا كان أحدُنا خاليًا قال اللهُ أحقُّ أن يُستحيا منهُ منَ الناسِ"، فحتى وأنت خالي يجوز التعري طبعا لكن الأفضل أن تستحي من الله وهو أحق من تستحي منه.
(ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ) غض البصر وحفظ الفروج أزكى وأطهر للمؤمن.
(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) الخبرة علم الخفايا، وهذا التذييل للآية مقصود، فلما تخطف نظرة محرمة فتذكر أن نظر الله أسبق إليك، خبير بما يصنعون؛
وهو البصير يرى دبيب النملة السـ ... ـوداء تحت الصخر والصوان
ويرى مجاري القوت في أعضائها ... ويرى نياط عروقها بعيان
ويرى خيانات العيون بلحظها ... ويرى كذاك تقلب الأجفان
فيعلم خائنة الأعين لن تخفى عليه خافية. (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) تأمل قوله تعالى (يَصْنَعُونَ) ليس يعملون، لأن النظر يترتب عليه مصانع من الفساد.
(وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) مع أن قوله تعالى (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ) داخل فيه المؤمنين والمؤمنات لكن الله خص النساء بالذكر، (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) وأيضا خفف الله تعالى عنهن في مسألة التبعيض "من أبصارهن" فالمرأة لا يجوز لها أن تنظر إلى عورة المرأة ولا إلى عورة الرجل، والنظر لحاجة كالبيع والشراء والأخذ والعطاء وغيره مباح، حتى إن كثيرا من أهل العلم يتوسع في مسألة النساء ويقول أن نظر النساء للرجال ليس كنظر الرجال للنساء، فيقولون النظر لغير حاجة بغير شهوة ليس حراما عليهن لأن عائشة رضي الله عنها نظرت إلى لعب الحبشة في المسجد والنبي عليه الصلاة والسلام يسترها، شرط أن يكون النظر بدون تلذذ وشهوة ولغير عورة، فأمر النساء أهون في هذه المسألة لأن الرجال ليس فيهم المفاتن التي في النساء. أما اذا نظرت بشهوة فهو حرام اتفاقا، ولا يحتج أحد بحديث عبد الله بن أم مكتوم على التحريم المطلق فيقول أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأم سلمة وغيرها من أمهات المؤمنين احتجبا منه فقالت يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا فقال أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟! نقول الحديث ضعيف لا حجة فيه على هذا التحريم.
(وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) أيضا النساء مأمورات بهذا، والسورة أصلا من مقاصدها الأساسية النهي عن فاحشة الزنا، فالمرأة مأمورة لا شك بحفظ الفروج والله تعالى شدد في هذا الأمر وأنزل فيه الحد ووصف المؤمنات بأنهن غافلات عن صنيع أهل السوء ووصفهن في سورة النساء قال (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ).
(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) هذا نهي للمرأة عن إبداء الزينة، فما هي زينة المرأة؟ المرأة كلها زينة، أي صاحب فطرة سليمة يرى في كل شيء في المرأة زينة، وأي إنسان يجادل في هذا إنما يجادل في باطل، وهذا مدح للمرأة، فالنساء كلهن مفاتن فلا يبدين زينتهن يعني كل المرأة، ثم استثنى الله تعالى فقال (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فإذا خرجت المرأة تتعمد أن تخفي زينتها، نهاها الله تعالى عن إبداء الزينة، تتستر سترا يخفي تلك الزينة، وروى مالك في الموطأ عن النبيء صلى الله عليه وسلم قال : نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة قال ابن عبد البر : أراد اللواتي يلبسن من الثياب الخفيف الذي يصف ولا يستر ، أي هن كاسيات بالاسم عاريات بالحقيقة. اهـ
ومن اللطائف في سماع ابن القاسم من جامع العتبية قال مالك : بلغني أن عمر بن الخطاب نهى النساء عن لبس القباطي . قال ابن رشد في شرحه : هي ثياب ضيقة تلتصق بالجسم لضيقها فتبدو ثخانة لابستها من نحافتها ، وتبدي ما يستحسن منها ، امتثالا لقوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها.اهـ اعجبني الأثر لأن بعض الناس لما نحتج عليه بحديث أسامة أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطاه قبطية وقال له البسها فما لبسها قال فسأله عن القبطية فقال له أعطيتها امرأتي فقال له مُرها فلتجعل تحتها غلالة -نوع ثاني من القماش- فإني أخاف أن تصف حجم عظامها، والحديث في إسناده شبهة فيقول لك الحديث ليس قويا في الإسناد ولا تحتجوا به علينا، نقول نحن لا نحتج بالحديث فقط، إنما نحتج بقوله تعالى ولا يبدين زينتهن هي لو لبست ضيقا من الثياب يبدي مفاتن ومحاسن طب ما هي كده ابدت الزينه كده ابدت زينتها وهذا فهم الائمه يعني الامام مالك وتابعه ابن رشد فهم هذا الكلام واحتج بقوله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فالحجة عندنا أصلا القرآن أما الحديث صح أو لم يصح فهذه مسألة أخرى، لكن القرآن صريح في النهي عن إبداء الزينة، فلو سترت جسمها بلباس ضيق يبدي المفاتن بل ممكن يحسنها عن العري نفسه لم تخفِ الزينة، بل أبدتها بأشد ما كانت ستبدو عليه. إذن اللباس الرقيقة التي تصف لا تجوز واللباس الضيقة ضيقا يبرز المفاتن والمحاسن لا تجوز.
والمجلس القادم بإذن الله نستكمل ما استثناه الله في قوله تعالى (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا).
والحمد لله رب العالمين
المَجْلِسُ الخامس من مجالس تفسير سورة النور
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا اله الا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم أما بعد فهذه هي الحلقة الخامسة من تفسير سورة النور وقد وقفنا عند قوله تعالى:
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
فبعد أن أمر ربنا تبارك وتعالى المؤمنين بغض البصر وألا ينظر الإنسان إلى ما لا يحل له، لأن البصر باب عظيم من أبواب الفتنة والوقوع في الفاحشة التي نهى الله تعالى عنها فأمر المؤمنات كذلك بغض أبصارهن وحفظ فروجهن.
ثم قال تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) فالمرأة مأمورة أن تخفي زينتها؛ ألا تبدي زينتها، فهذا أمر من الله تعالى لنساء المؤمنات، وكل المرأة زينة، لأن الله تعالى زين النساء في أعين الرجال، وخلقهن خلقة فيها من آياته ما فيها حتى إن كل عضو في المرأة من شعر رأسها إلى أصبع قدمها فيه ما فيه من إغراء للرجال، فلذا فإن الله تعالى سمى ذلك كله زينة فقال (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) لتسد على الرجال باب الفتنة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت بعدي في الناس فتنة أضر على الرجال من النساء" متفق عليه. فلأجل هذا أمر الله تعالى بهذا الأمر (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ).
ثم من رحمته تبارك وتعالى أن استثنى فقال (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) يعني إلا ما يظهر عادة مما فيه حرج على المرأة أن تخفيه؛ فيظهر من المرأة زينة خلقية -من الخلقة- وزينة مصطنعة، لأن زينة المرأة قسمان زينة في الخلقة وهو جسد المرأة ومفاتنها التي خلقها الله تبارك وتعالى عليها، وزينة مصطنعة مثل الكحل والخاتم والسوار والقلائد والقرط والخلخال. فقال تعالى (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) يعني ما يظهر مما يشق على المرأة أن تخفيه من زينة خلقية كانت أو زينة مصطنعة فإنه يجوز لها أن تظهره، وهو خارج من قوله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ).
السلف ورد عنهم في تفسير قوله تعالى (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) ما يأتي:
سعيد بن جُبير، عن ابن عباس: ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال: الكحل والخاتم.....
الضحاك، عن ابن عباس، قال: الظاهر منها: الكحل والخدان...
سعيد بن جُبير، في قوله: ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال: الوجه والكفّ...
عطاء في قول الله ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال: الكفان والوجه…
قَتادة قال: الكحل، والسوران، والخاتم...، السواران أي الأسورة التي في يد المرأة.
معمر، عن قَتادة: ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال: المسكتان والخاتم والكحل…، المسكتان أيضا بمعنى السواران.
مقصود السلف بهذا الكلام أن الوجه والكفين هو ما ظهر من المرأة وما كان عليهما من زينة تأبى المرأة أن تظهر بين أترابها إلا به، كامرأة معتادة على وضع الكحل وتأبى أن تظهر بين أترابها يعني صويحباتها من النساء ومحارمها إلا بالكحل، أو تتزين بالخاتم ودائما الخضاب في يديها ويشق عليها عند الخروج نزع هذا الذي اعتادته من زينة، فرخص الله تعالى في هذه الزينة الظاهرة، سواء في الخلقة وهي الوجه والكفين وما كان عليهما يعني من زينة مصطنعة ككحل وخاتم وسوار وخضاب.
نكمل أقوال السلف:
عن الزهري، عن رجل، عن المسور بن مخرمة، في قوله: ( إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال: القُلْبَين، والخاتم، والكحل، يعني السوار… القلبان أيضا السواران.
عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس، قوله: ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال: الخاتم والمسكة.
قال ابن جُرَيج، وقالت عائشة: القُلْبُ والفَتْخَة.. والفتخة خاتم ليس فيه فصوص.
قال ابن جُرَيج، وقال مجاهد قوله: ( إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال: الكحل والخضاب والخاتم......
عاصم، عن عامر-الشعبى-: ( إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال الكحل، والخضاب، والثياب.....
ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) من الزينة: الكحل، والخضاب، والخاتم، هكذا كانوا يقولون وهذا يراه الناس......
عمر بن أبي سلمة، قال: سئل الأوزاعي عن ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال: الكفين والوجه......
جُويبر، عن الضحاك في قوله: ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ) قال الكفّ والوجه.....
يونس ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال الحسن البصري: الوجه والثياب......
قَتادة، عن الحسن، في قوله: ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال: الوجه والثياب......
ابن جرير الطبري:
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: عُني بذلك: الوجه والكفان، يدخل في ذلك إذا كان كذلك: الكحل، والخاتم، والسوار، والخضاب.....
مقصودي أن هذا القول هو أشهر الأقوال عن السلف، حتى أن ابن عبد البر لما حكى الخلاف الوارد عن السلف قال: اختلف العلماء في تأويل قول الله عز وجل ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها،
فروي عن ابن عباس وابن عمر إلا ما ظهر منها الوجه والكفان، وروي عن ابن مسعود (ما ظهر منها) الثياب قال لا يبدين قرطاً ولا قلادة ولا سواراً ولا خلخالا إلا ما ظهر من الثياب، واختلف التابعون فيها أيضاً على هذين القولين، وعلى قول ابن عباس وابن عمر الفقهاء.
عليه الفقهاء يعني عليه الفتوى سواء في مذهب المالكية أو غيرهم، أن ما ظهر منها هو الوجه والكفان. فمن رأت عسرا عليها في إخفاء الوجه والكفين فإن الله تعالى رخص للنساء في إبداء الوجه والكفين بل وما عليهما من زينة معتادة.
(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ) لا بد أن نفهم مصطلحات القرآن على حقيقتها لا بمصطلحنا العصري، يعني في القرآن لفظ خمار ولفظ جلباب في سورة الأحزاب، فيجب أن نفهمه على اصطلاح القرآن؛ الخمار في لغة العرب غطاء الرأس، فربنا قال غطاء الرأس هذا مطلوب من المرأة المسلمة أن تضرب به على جيبها (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ ) يعني تلقي الخمار على عنقها بحيث أن يغطي الرقبة ويغطي الجيب، والجيب هو فتحة القميص، والباء في بِخُمُرِهِنَّ للإلصاق.
أما التبرج وإظهار الزينة فقد نُهيت عنه النساء أيما نهي، فكما قلنا لهم أن من شاءت أن تظهر من الزينة الظاهرة الوجه والكفين فهذا قد رخص الله تعالى فيه وأكثر أقوال أهل العلم من لدن الصحابة إلى زمان الناس هذا على أن الوجه والكفين ليسا من العورة، وأن المرأة يجوز لها أن تبدي وجهها وكفيها أمام الأجانب،
ومن وجد فتنة فليغض بصره، (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)
لكن ننبه على أمرين:
الأمر الأول: نحض النساء على تغطية الوجوه، لأن هذا مستحب والله تعالى أنزل آية سورة الأحزاب في حق أمهات المؤمنين (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ) وقد جرت عادة النساء من زمان النبي عليه الصلاة والسلام إلى زماننا الاقتداء بأمهات المؤمنين في هذه الفضيلة وهي تغطية الوجه، ويأتي معنا في آية سورة الأحزاب أيضا أن هذا من الفضائل، فلا يقال النقاب ليس من الإسلام والنقاب عادة جاهلية ونمنع النقاب في المدارس والجامعات ونحو هذا، طبعا هذا منكر عظيم لأن هذا من دين الله تعالى وشرعه، وأمهات المؤمنين أمرن بهذا والنساء المؤمنات اقتدين بهن، والنبي عليه الصلاة والسلام قال كما في البخاري "لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين" لكن غير المحرمة لها أن تنتقب ولها أن تلبس القفازين وأن تغطي وجهها وكفيها بل هذا أحسن وأفضل، لكن لا نلزم النساء بهذا، فالمرأة أدرى بنفسها؛ أدرى بما يعسر عليها وبما يسهل عليها، فهذا الأمر يرجع إليها، حتى لا يجوز للزوج أن يلزمها بغطاء الوجه لأن الله تعالى قد رخص في هذا.
لكن تبرج النساء وإظهار الزينة ينبغي أن تتنبه النساء أنه من الكبائر، النبي عليه الصلاة والسلام قال: "صنفان من أهل النار لم أرهما" وذكر من هذين الصنفين "ونِساءٌ كاسِياتٌ عارِياتٌ مُمِيلاتٌ مائِلاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المائِلَةِ، لا يَدْخُلْنَ الجَنَّةَ، ولا يَجِدْنَ رِيحَها، وإنَّ رِيحَها لَيُوجَدُ مِن مَسِيرَةِ كَذا وكَذا" والمرأة الكاسية العارية هي التي لم تخفِ كل الزينة، يعني أظهرت شيئا من شعرها؛ شيئا من ذراعيها؛ شيئا من رجليها أو ساقيها؛ أو أبدت الزينة بأن لبست ضيقا من الثياب أبدى تلك المفاتن، فهي داخلة في هذا الوعيد لأنها كاسية عارية، قال الذهبي في كتابه الكبائر "فمن الأفعال التي تُلعن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب واللؤلؤ من تحت النقاب؛ (ده هو بيتكلم عن امرأة منتقبة وليس عن امرأة سافرة، يقول لو تعمدت إظهار الزينة فإن هذا من الكبائر)؛ وتطيبها بالمسك والعنبر ونحو ذلك ولبسها الصياغات والأُزر والحرير والأقبية القصار مع تطويل الثوب وتوسعة الأكمام وتطويلها إلى غير ذلك إذا خرجت؛ وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة"،
فالمقصود أن من الأئمة كُثُر من نصوا على أن المرأة إذا تعمدت إظهار الزينة التي لم يرخص الله تعالى في إظهارها فإن هذا من الكبائر، حتى أن الذهبي ذكر موضة النساء في توسيع كم القميص فإذا رفعت يدها تبدو زينتها، يقول كل هذا -هو يتكلم عن امرأة متسترة- فما بالك بامرأة سافرة أبدت محاسنها وتفننت في إبراز زينتها أمام الناس فهذا لا شك مما يبغضه الله تعالى ويمقت على فاعلته.
ومشكلة التبرج أنه معصية متكررة، كلما خرجت المتبرجة أتت تلك المعصية، والمعصية لما تتكرر لا شك تنكت في القلب نُكتا سوداء؛ يعني تترك أثرا عظيما في إيمان صاحبتها.
وأيضا من مشكلة تبرج النساء أنه مجاهرة بالمعصية، لأنها معصية ظاهرة أمام الناس؛ والنبي عليه الصلاة والسلام يقول "كل أمتي معافى إلا المجاهرين" الذين يجاهرون بالمعصية.
فالمتبرجة حقيقة وقعت في آثام عظيمة فضلا عن أنها فتنة لغيرها "ما تركت فتنة بعدي أضر على الرجال من النساء" فهي تفتن كثيرا من الرجال.
ومشكلة التبرج أيضا أنه ينزع الحياء من صاحبته؛ النبي عليه الصلاة والسلام لما ذكر شعب الإيمان قال: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" فالرسول عليه الصلاة والسلام ذكر أعلى شعبة وأدنى شعبة وبينهما واحد وسبعون شعبة خص منها شعبة الحياء بالذكر وأنها شعبة من الإيمان، وهذا يبين أهمية هذه الشعبة، لذا قال ابن عمر رضي الله عنهما الحياء والإيمان قُرنا جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى (يعني الأنبياء كانوا يورثون هذه الأقوال لأقوامهم) إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، فالحياء مما فرض الله تعالى وفطر عليه العباد.
(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ) في البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "يرحم الله نساء المهاجرات الأول ، لما أنزل الله : ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) شققن مروطهن فاختمرن به"، وفي رواية "فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها"،
في رواية أخرى في خارج الصحيح تقول عائشة رضي الله عنها "ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل لقد أنزلت سورة النور وليضربن بخمرهن على جيوبهن فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله فيها ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان" أي خلف النبي عليه الصلاة والسلام، المقصود أن نساء المؤمنات الأول لم يظهر منهن الجدال ولا تأخير العمل من إحداهن حتى تقتنع، لأن كلام الله تعالى حق وصدق وعدل ليس فيه جور ولا حيف.
(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ…) هنا ربنا ذكر المحارم،
وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) زينتهن الأولى كل الزينة؛ خلقية ومصطنعة، أما هنا؛ الزينة الثانية أي مواضع الزينة مثل القلادة والأساور في اليد والخلخال في الرجل، هذه المواضع بما فيها من زينة يجوز أن تبدو للمحارم، فالمرأة أمام أبيها وأبنائها تبدو مثلا عنقها وأعلى الصدر موضع القلادة بالحلق حتى بشعرها وتبدي إلى نصف الذراع مثلا للمهنة وشيء من الساق موضع الخلخال، فمن هم هؤلاء المحارم؟
(إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) الأزواج طبعا ينظرون إلى هذا ولهم أن ينظروا الى ما شاؤوا بعد ذلك.
(أَوْ آبَائِهِنَّ) الأب طبعا محرم.
(أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ) من نسميه عرفا حماها وهو أبو الزوج.
(أَوْ أَبْنَائِهِنَّ) الأبناء من المحارم.
(أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ) لو هي تزوجت رجلا عنده أبناء يصيرون من المحارم.
(أَوْ إِخْوَانِهِنَّ) إخوة المرأة لا شك من محارمها.
(أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ) فهي عمتهم.
(أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ) فهي خالتهم.
هؤلاء -دون الزوج- سبعة، الآباء والأبناء وآباء الأزواج وأبناء الأزواج والإخوة وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات.
لماذا لم يذكر ربنا تبارك وتعالى العم والخال وهما من المحارم؟ في أقوال كثيرة للعلماء فبعضهم قال لأنهم داخلين في قوله تعالى (أَوْ آبَائِهِنَّ)
نحن نقول في أمثالنا: الخال والد
وفي الحديث الشريف(الخالة بمنزلة الأم)،
والعم جاء في القرآن تسميته أباً كما في قوله تعالى: {نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ .. }، وقيل لما نص الله تعالى على أبناء الأخوة وأبناء الأخوات وهي عمتهم أو خالتهم فعرف أن العم والخال أيضا ممن دخل في المحارم. وأعمام الأب أعمام للمرأة وأخوال الأب أخوال للمرأة ، وكذلك أعمام أمها وأخوال أمها.
ومن المحارم أيضا مثل هؤلاء من الرضاعة، لأن الرضاعة تحرّم ما تحرم الولادة، فالأب بسبب الرضاعة والأبناء من الرضاعة والأخوة من الرضاعة وأبناء الإخوة من الرضاعة وأبناء الأخوات من الرضاعة والعم بسبب الرضاعة والخال بسبب الرضاعة كل هؤلاء من المحارم.
البعض قد يستغرب أب بسبب الرضاع وعم بسبب الرضاعة،
عَن عائشةَ قالت: دخلَ عليَّ أفلحُ بنُ أبي القُعَيْسِ فاستَترتُ منهُ قالَ: تَستتِرينَ منِّي وأَنا عمُّكِ، قالَت: قلتُ: مِن أينَ ؟ قالَ: أرضعتْكِ امرأةُ أخي قالت: إنَّما أرضعَتني المرأةُ ولم يُرضِعني الرَّجلُ، فدخلَ عليَّ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فحدَّثتُهُ، فقالَ: "إنَّهُ عمُّكِ فليلِجْ علَيكِ"، لأن السبب في لبن المرأة المرضعة هو الأب ويسمى صاحب اللبن ويكون أبا بسبب الرضاع وأخوه يكون عمًّا بسبب الرضاعة وهكذا، فالرضاعة تحرم ما تحرم الولادة.
والمصاهرة أيضا ينتج عنها محارم، أبو الزوج وابن الزوج، وزوج البنت وزوج الأم.
الخلاصة؛ محارم المرأة:
من النسب سبعة:
- الأب
- والأبناء
- والإخوة
- وأبناء الإخوة
- وأبناء الأخوات
- والعم
- والخال.
ومثلهم من الرضاعة:
- الأب بسبب الرضاعة
- والأبناء من الرضاعة
- والأخوة من الرضاعة
- وأبناء الإخوة من الرضاعة
- وأبناء الأخوات من الرضاعة
- والعم بسبب الرضاعة
- والخال بسبب الرضاعة.
وأربعة من المصاهرة:
- أبو الزوج
- وابن الزوج،
- وزوج البنت
- وزوج الأم إن دخل بها.
(أَوْ نِسَائِهِنَّ) أي المسلمات عند جمهور أهل العلم، يعني المرأة تبدي للنساء المسلمات ما تبدي للمحارم من الزينة، لكن لو كانت المرأة هذه الأجنبية عنها غير مسلمة يهودية أو نصرانية أو مشركة فلا يجوز لها أن تبدي لها إلا ما ظهر منها؛ مثلهم مثل الرجال غير المحارم بالضبط؛ الوجه والكفين فقط، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة؛ أبي حنيفة ومالك والشافعي، أما الإمام أحمد فمذهبه كل النساء وقال أن الضمير في الآية للإتباع.
(أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) يجوز للمرأة أن تبدي زينتها أمام من ملكت يمينها من العبيد، طبعا الإماء يدخلن في قوله تعالى (أَوْ نِسَائِهِنَّ) لو كن مسلمات، ويدخلن في قوله تعالى (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) لو كن غير مسلمات، أما العبيد ممن تحت يديها من ملك اليمين وهم الرقيق فيجوز لها أن تبدي لهذا الرقيق -عبدها- ما تبدي للمحارم، ربما لا تتخيل هذا لأنك لا تتخيل معنى رقيق أصلا. لما استأذن بعض العبيد على عائشة رضي الله عنها فقالت كم بقي لك من مكاتبتك -ستأتي إن شاء الله أحكام المكاتبة- فقال كذا فقالت ادخل فإنك عبد ما بقي عليك درهم، تعني أعاملك معاملة العبيد، وفي السنن أن النبي عليه الصلاة والسلام لما أعطى فاطمة غلاما يخدمها من الرقيق فكان عليها ثوب إذا سترت رأسها بدت قدماها وإذا سترت قدميها بدا رأسها فالنبي عليه الصلاة والسلام خفف عنها قال إنما هو أبوك وغلامك.
(أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ) يعني غير أولي الحاجة؛ من ليس لهم شهوة في النساء، هؤلاء لو من أتباع البيت من الحمقى ويدخل البيت ليأكل عندك فهذا يجوز للمرأة أن تبدو أمامه ببعض الزينة، لأنه تابع ومن غير أولي الإربة، أما لو ظهرت عليه علامات الشهوة وأصبح يشتهي النساء وعرف الجميلة من غيرها وميّز مفاتن النساء ونحو هذا فمثله يمنع من الدخول على النساء، في الصحيح من حديث الزهري ، عن عروة ، عن عائشة; أن مخنثا كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينعت امرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا ، لا يدخلن عليكن ". وبعض المفسرين وهم كثر قاسوا على التابعين الشيخ الهرم.
(أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَىٰ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) أيضا ممن لا حرج عليه أن يطلع على الزينة التي ذكرناها الطفل الذي ليس له ظهور على عورات النساء، لم يظهر يعني لم يطلع؛ يعني العورة عنده كغيرها لم يفرق، وقيل (لم يظهر) من الغلبة وليس الظهور بمعنى الاطلاع؛ الظهور بمعنى الغلبة، يعني ليس عنده قوة على إتيان النساء، فهذا الطفل يجوز أن تبدو أمامه ببعض الزينة، لكن لو كان مراهقا حتى لو لم يبلغ الحلم ولكن ميّز بين ما يشتهى من النساء وما لا يشتهى فإنها تحتجب منه، وعلى هذا نص الشافعي رحمه الله.
(وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) هذه الآية فيها من الإيجاز وجوامع الكلم لأنها حوت أحكاما كثيرة، المرأة خرجت متسترة لكن الخلخال تضرب برجليها بطريقة معينة إذا مرت على الرجال لتلفت أنظارهم، فلما كان النهي عن إبداء الزينة لمنع الفتنة وصرف أنظار الرجال عن النساء وحتى لا تكون أداة فساد في المجتمع والأحكام الشرعية قائمة على العلل فلا يجوز للمرأة أن تعمل حركة معينة أو تتكلم بطريقة معينة أو تمشي بطريقة معينة يكون فيها فتنة للرجال، ويدخل في هذا مثلا التكسر في المشي والخضوع بالقول والتغنج والطيب الفواح الذي يفتن الرجال؛ "أيُّما امرأةٍ استعطَرَت فمرَّت علَى قومٍ ليجِدوا من ريحِها ؛ فَهيَ زانيةٌ" لأنها فتنت الرجال بتلك الريح العبيق الذي وضعته، فكل هذا يدخل في قوله تعالى (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ).
(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) الأمور التي ذكرت من عدم غض البصر والتبرج وإظهار الزينة تحتاج كلها إلى توبة، لو واقع المسلم منها ما واقع فالحل (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فالله -عز وجل- يدعونا جميعا إلى التوبة، من أطلق بصره ووقع في هذا الزنا زنا العينين أو زنا الأذنين أو زنا الكلام واللمس والخطى، فربنا يأمرنا بالتوبة، وللأسف بعض المسلمين من اعتيادهم للمعصية واستخفافهم بأمر الله تعالى أصبحت المعصية كأنها ملكة، يعني تجد مكان استقبال مثلا وفيه شاشة يُعرض عليها صور عاريات وأفلام ومسلسلات وأغاني وكليبات ونحو هذا، تبجح على معصية الله حتى بغير شهوة.
الإنسان لو وقع في المعصية عن شهوة فهذا متصور وهو يعلم فيتوب ويرجع؛ تغلبه شهوته مرة وهو يغلب شهوته مرة ويتوب، لكن لو وقع عن ملكة وأصبحت المعصية ملكة وعادة فمتى يتوب إلى الله تبارك وتعالى إذا اعتاد المعصية، والمرأة التي اعتادت التبرج والسفور فلا تخرج إلا بكامل الزينة، ولا نريد أن نصف زينة النساء لأن إشارات القرآن واضحة؛ (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ) فلباس المرأة يجب أن يكون ساترا، في آية الأحزاب (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ) الجلباب لباس تلبسه المرأة فوق الخمار؛ فوق ثيابها؛ أنت تجد في كتب الفقه مثلا تصلي المرأة في درع وخمار الدرع قميص سابغ يستر حتى قدميها والخمار غطاء الرأس، هذا هو الواجب علي المرأة في صلاتها إذا كانت في بيتها في غير حضرة الأجانب، أما إذا بدت للاجانب من الرجال لغير المحارم وخرجت من بيتها فالله عز وجل يأمرها فوق الدرع والخمار بالجلباب فهو لباس فوق اللباس ينزل من رأسها على كتفيها يستر عظام كتفيها، ومعنى الإدناء؛ السلف قالوا فيه أقوالا كثيرة، وما توصلت له من أقوالهم أن الإدناء درجات، منهم من قال تضع على الجبين، على الحاجبين، تغطي نصف وجهها، تغطي وجهها إلا عينيها، تغطي وجهها إلا عينا واحدة، فالإدناء درجات، وكل واحدة تجتهد فيما ما استطاعت، وهذه الدرجات مستحبة، الجلباب فوق الخمار واجب وإدناؤه واجب لكن درجات الإدناء مستحبة لذلك تجد السلف قالوا أقوالا كثيرة في الإدناء.
مسألة: حكم البنطلون: نقول ربنا أمر فوق الخمار -غطاء الرأس- بجلباب سابغ كي لا تبدو الأعضاء، فالبنطلون حتى لو واسع فليس من لباس المسلمات والمرأة إذا تحركت أو جلست ونحو هذا فلا شك أن البنطلون على الأقل يجسم الفخذين، إن لم يكن مجسما للساقين فليس من لباس المسلمات، ممكن نتكلم في البنطال في صورة واحدة أن امرأة لبست قميصا سابغا إلى أنصاف الساقين أو ما بعد ذلك ولبست تحت ذلك يعني كملت ببنطال واسع، هذه الصورة فقط ممكن نتجاوز عنها، وحتى بعض أهل العلم منع من تلك الصورة، لكن إنصافا للمرأة كي لا نضيق عليهن هذه الصورة الذي يظهر لنا جوازها.
ونكرر أن من شروط ثياب المرأة أن يكون ساترا لكل البدن إلا الوجه والكفين، وأن يكون فضفاضا لا يجسم، وألا يصف، وأن يكون سابغا لا يشف، وألا يشبه لباس الكافرات، وألا يشبه لباس الرجال، وألا يكون زينة في نفسه، وألا يكون مطيبا -والطيب فيه تفصيل لعلنا نرجع إليه-.
فائدة في الآيتين 30 و31 أن الله وجه الخطاب فيها للنبي عليه الصلاة والسلام وقال له (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ) (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ) بخلاف مثلا قوله تعالى (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ربنا توجه بالخطاب مباشرة إلى المؤمنين، كأن الله تعالى ينبهنا أن هذه الأحكام أحكام ينبغي أن يعلِّمها الآباء لأبنائهم يعني إذا كان النبي عليه الصلاه والسلام هو أبٌ لهذه الأمة كما قال عليه الصلاة والسلام: "إنَّما أنا لكم بمَنزِلةِ الوالِدِ، أُعلِّمُكم" فكذلك كل الأباء، فلا تنتظر ابنتك تتعلم تلك الأحكام من المدرسة ولا من الإعلام والتلفزيون وصويحباتها؛
لا علم أبناءك وبناتك تلك الأحكام. أيضا في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ) الخطاب للنبي عليه الصلاة والسلام أن يقول للمؤمنات يعملن كذا وكذا، فنحن أيضا مطلوب منا كآباء أن نعلم بناتنا وأن نشدد عليهن في هذا الأمر ونعلمهن برفق ولين في أول الأمر، ونبلغ أحكام الله تعالى ونبين لهم.
وصل اللهم على محمد والحمد لله رب العالمين سبحانك اللهم وبحمدك نشهد ألا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
المَجْلِسُ السادس من مجالس تفسير سورة النور
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا اله الا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم أما بعد فهذا هو المجلس السادس من تفسير سورة النور وقد وقفنا عند قول الله تعالى:
وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
فلما كانت السورة تنهى عن فاحشة الزنا في أول ما نهى الله تعالى عنه؛ فإن الله تعالى أحاط تلك الفاحشة بسياجات، حتى يسهل على المؤمنين ألا يقعوا في تلك الفاحشة، فأنزل الله تعالى حد الزنا وجعل فيه نكالا وعبرة بشهود طائفة من المؤمنين له
وأنزل الله حد القذف وآداب الاستئذان وأنزل الله تعالى كذلك آيات غض البصر وآيات ارتداء الخمار للنساء وألا تبدي المرأة زينتها، ثم يقول تعالى:
(وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ)؛ الأيامى جمع أيِّم، وهو الرجل لا زوجة له أو المرأة لا زوج لها، يعني كل رجل بالغ أو امرأة بالغة ليس ذا زوجة أو ليست ذات زوج؛ فهذان يقال عنهما أيم، سواء أعزب أو أرمل أو مطلق، يعني سواء سبق له الزواج أو كان بكرا؛ كلهم أيامى، والرجل يقال له أيم والمرأة يقال لها أيم؛ رجل أيم وامرأة أيم.
فالله تعالى قال للمسلمين (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ) يعني لا تجدون رجلا أيما ولا امرأة أيما إلا زوجتموهم، حتى تسدوا على النفس باب الفاحشة وباب المعصية، لذا فإن من آداب الإسلام تسهيل أمر الزواج، ففي الحديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: تزوَّجْتُ فاطمةَ رَضِيَ اللهُ عنه، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، ابنِ بي، قال: "أَعْطِها شيئًا"، قلتُ: ما عندي مِن شيءٍ، قال: "فأينَ دِرْعُكَ الحُطَمِيَّةُ"؟ قلتُ: هي عِندي، قال: "فأَعْطِها إيَّاهُ". فهذا مهر فاطمة رضي الله عنها وهي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحقيقة عند الحرب من الذي يأخذ الدرع الحطمية يتدرع بها؟! هو علي بن أبي طالب؛ هو الذي ينتفع بالدرع الحطمية، وجهزها النبي عليه الصلاة والسلام وسادة من أدم حشوها إذخر وقيل حشوها ليف وقطيفة وقربة ماء؛ قيل وسرير في رواية ابن حبان وسرير مشرّط فكان هذا جهازها رضي الله عنها.
ومعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام وهو أبٌ لنساء هذه الأمة لما قال له الرجل يا رسول الله زوجنيها فقال التمس شيئا فقال ما عندي شيء، قال فاذهب فالتمس ولو خاتما من حديد، فلم يجد فجلس فلما ولى دعاه فقال ما معك من القرآن؟ فقال معي سورة كذا وسورة كذا لسور يعددها فقال صلى الله عليه وسلم تقرؤهن عن ظهر قلب قال نعم، فزوجه النبي عليه الصلاة والسلام.
المقصود أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان من مقاصده تسهيل الزواج حتى لا يدع امرءًا أيِّما ولا امرأة أيما كذلك.
(وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ) يعني من الأحرار؛ الرجال والنساء، (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) حتى العبيد الرقيق يأمر ربنا كذلك أن نزوجهم؛ أنكحوا هؤلاء أيضا؛ الصالحين من عبادكم وإمائكم، وكلمة الصالحين هنا ليس لها مفهوم مخالفة، ولكن الله نص على الصالحين على قول بعض المفسرين حتى لا تغتر بصلاحه فتقول هذا العبد صالح فلن يقع في الفاحشة، ويستفاد منه في قول بعض الآباء أنا أثق في بنتي وأثق في ابني ويؤخر زواج الأبناء والبنات، بل الصالحين أولى بأن تُنكحوهم لأنهم يستعفون عن الحرام فافتحوا لهم بابا من الحلال.
(إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) روى ابن جرير وابن أبى حاتم بإسنادهما عن أبى بكر الصديق رضي الله عنه قال: "أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، ينجز لكم ما وعدكم به من الغنى"، أطيعوا أمر الله في إنكاح هؤلاء الفقراء والله تعالى يغنيهم من فضله.
وعبد الله بن مسعود قال "التمسوا الغنى في النكاح"،
حتى إن عمر ورد عنه أنه يعجب ممن يلتمس الغنى والمال ولا يتزوج.
فالله تعالى وعد وعدا حسنا فقال (إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ).
(وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) واسع تأتي بمعنيين؛ واسع الفضل وواسع العلم، فهي هي هنا للفضل؛ وَاسِعٌ يعني واسع العطاء والفضل؛ عَلِيمٌ بأحوال عباده، فيعلم هؤلاء الذين أرادوا أن يستعفوا بالزواج، النبي عليه الصلاة والسلام قال ثلاثةٌ حقٌّ على اللَّهِ عونُهُم: "المُجاهدُ في سبيلِ اللَّهِ، والمُكاتِبُ الَّذي يريدُ الأداءَ، والنَّاكحُ الَّذي يريدُ العفافَ"
فالله تعالى عليم بحال هذا الناكح إن هو أراد النكاح من أجل أن يستعف عن الحرام؛ من أجل أن يسد على نفسه باب الحرام، ولذا كان في ابتغاء هذا الحلال أجر؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام "وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ"، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأتي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكونُ له فِيهَا أَجْرٌ؟ قالَ: "أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَهَا في حَرَامٍ، أَكانَ عليه فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذلكَ إذَا وَضَعَهَا في الحَلَالِ كانَ له أَجْرٌ".
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا ۖ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ۚ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (33)
(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا) فإذا الأمة خالفت -وقد كان- وعسروا عليك النكاح وبالغوا في المهور فلا يزين لك الشيطان أبواب الحرام؛ لا؛ (وَلْيَسْتَعْفِفِ) يعني ليطلب العفة (الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا)، النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث قال: "وإنَّه مَن يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللَّهُ"، والآية فيها وعد للمستعفين (حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) يعني سيأتي الوقت إن شاء الله تعالى ويغنيهم من فضله ويفتح لهم باب الحلال؛ ولكن الله تعالى يبتلي عباده بما شاء، فيبتليك كرجل أيم أو يبتليكِ كامرأة أيم هل ستطرق أبواب الحرام أم تصبر وتستعف حتى يغنيك الله من فضله، والله تعالى واسع عليم.
(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) المكاتبة من أحكام الرقيق، والرقيق هو ملك اليمين؛ لو قامت حرب بين المسلمين والكافرين فأسرى العدو يكونون من الرقيق؛ يكونون عبيدا ويكن إماءً عند المسلمين، فهذا سبيل الرق، في زماننا لا رق لأنه لا جهاد مرفوع كراية والمسلمون للأسف مستضعفون ولا رق، لكن هذه من أحكام الرق.
(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ) فالعبد الذي يريد العتق ويريد الحرية يقول لسيده كاتبني ويؤدي إليه كل شهر قسطا من ثمنه والسيد يتركه يعمل ويسدد ما عليه من أقساط، فالله عز وجل أمر لو هذا العبد فيه خير -وخيرا يعني مالا- وهنا الله تعالى لم يقل إن علمتم لهم خيرا لأن العبد لا يملك المال بل قال (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) يعني قوة على اكتساب المال.
وأمر الله -تعالى- بالمكاتبة على الوجوب على قول جماعة من الصحابة وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنس بن مالك حين سأله مملوكه سيرين الكتابة فتلكأ أنس، فقال له عمر: لتكاتبنه أو لأوجعنك بالدرة، وسيرين هو والد محمد بن سيرين.
(وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) يعني لما تكاتبوهم في آخر قسطين أو ثلاثة يحط السيد عنه ما بقى، والمسلمون يخرجون إليهم زكوات أموالهم ويخرجون لهم الصدقات لأن لهم سهم في الزكاة اسمه وفي الرقاب، والصدقة بابها واسع.
وهنا تثار شبهات على الإسلام فيقال عندكم ملك يمين في الإسلام؟ نقول نعم؛ عندنا ملك يمين لكن لها أحكام جليلة، وتعالى نقارن بين أحكام ملك اليمين في الإسلام جملة وبين أحكام الأسرى في ميثاق الأمم المتحدة، ولا نقول معتقل جوانتانامو في أمريكا وما تسرب منه من تجاوزات على المبادئ التي وضعوها هم، بل نقارن بين ميثاق الأمم المتحدة هل هو أسمى أم تشريعات الإسلام في العبيد والإماء، تشريعات الإسلام أسمى، الرقيق يأكل المسلم من يده ويشرب من يده، فنحن نأتمنه على طعامنا وشرابنا، ومر في آية (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) أن المرأة تأمن هذا الرقيق على زينتها فتبدو أمامه كما تبدو أمام محارمها، ووقت الزواج نزوجه، ولو طلب المكاتَبة يُكاتب ويُعان عليها بمال الزكوات والصدقات، وبعض الكفارات تكون بعتق الرقاب، كل هذا من نظام الإسلام في الأسرى، قارن بين هذا النظام وبين سجون أدعياء حقوق الإنسان تعلم الفرق.
(وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ممكن في المسلمين بعض المنافقين وعنده إماء يكرههن على البغاء لأجل المال مثلا، فربنا يأمر ولي الأمر أن يتدخل ويتدخل أصحاب الرأي من المسلمين ليمنعوا هذا الرجل من مثل هذا.
(إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) ليست شرطا، بل خرجت مخرج الغالب وفيها تزكية للإماء أى غالب حالهن إرادة التحصن والتعفف
(لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يعني لا يجوز أن تجمعوا المال بأن تُشيعوا الفاحشة حتى في الإماء؛ حتى في الأسرى.
(وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) لو رجل أكره الأَمة على البغاء -البغاء هو الزنا-، فالرجل عقابه عند الله وأما الأمة (فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) يعني لهن؛ غفور رحيم لهن، لأنها مكرهة. وقرأ ابن مسعود، وجابر بن عبد الله ، وابن جبير ( لهن غفور ) بزيادة لهن.
(وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ) السورة افتتحت بآية (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) لذلك آية (وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ) من الآيات المحورية في سورة النور، يعني تجد مثلا في الصفحة الثانية (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) هذا ثاني موضع فيه البيان، وهنا هذه الآية (وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ) وستأتي الآية 46 (لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ)
وفي الآيات 58 و59 و61 كذلك
فسورة النور مليئة بالآيات المبينات الموضحات لأحكام الله تعالى الجليلة العظيمة التي أنزلها في هذه السورة.
(مُّبَيِّنَاتٍ) فيها قراءتان وثلاثة معاني،
- قراءة مُّبَيِّنِاتٍ اسم فاعل،
- ومُّبَيِّنَاتٍ -بفتح الياء مشددة- القراءة الثانية اسم مفعول،
فتكون قراءة مُّبَيِّنِاتٍ
- بمعنى موضِّحَات؛ أي موضِحات للهدى وللرشاد الذي أنزله الله تعالى على عباده،
- وأيضا بمعنى بينات؛ بمعنى واضحات، لأن العرب عندهم الفعل بيّن يأتي بمعنى تبيّن يعني يأتي لازما ولا يشترط أن يأتي متعديا؛ يقولون قد بيَّن الصبح؛ يعني قد تبيَّن الصبح، فمبيِّــــنات اسم فاعل لها معنيين موضِحات وواضحات، واضحات أي أن الله فصلها تفصيلا، وموضحات لهدى الله تعالى وأحكام الجليلة وأنه أنزل أحسن الكتاب. أما
- قراءة مُّبَيَّنَاتٍ -بفتح الياء مشددة- معناها يعني موضَّحَات يعني أن الله تعالى فصلها تفصيلا ووضحها للناس،
فهاتان قراءتان في قوله تعالى مُّبَيِّنَاتٍ؛ قراءتان وثلاثة معانٍ مُّبَيِّناتٍ: موضِّحَات وواضحات، ومُّبَيَّنَاتٍ -بفتح الياء مشددة- يعني موضَّحَات.
(وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ) في تفسير أبي السعود قال (مِّنَ) هنا لبيان الجنس، يعني أنزلنا في سورة النور مثلا من مثل أمثال الذين خلوا من قبلكم، من أحكام الله الجليلة والقصص العجيبة، لأننا لما اعتدنا القصص العجيبة في الأمم السابقة لم نعتد على القصص العجيبة كثيرا في أمة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هنا في سورة النور حادثة الإفك؛ القصة الغريبة التي حدثت لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وما كان فيها من تقدير الله أنها غابت عن الجيش بتقدير الله لما فقدت عقدها ثم مرضت شهرا لا تدري ما يقول الناس وانقطع الوحي عن النبي عليه الصلاة والسلام شهرا ثم بكت ليلتين ويومين ثم انقطع رجاؤها من الناس جميعاً وتعلقت بحبل الله فجاءت براءتها من الله.
فهذا مثل من مثل أمثال الذين خلوا من قبلنا، وكذلك قصة الملاعنة بين هلال بن أمية وزوجته وهو يشكو إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والرسول يقول له البينة أو حد في ظهرك؛ حتى أنزل الله تعالى حد اللعان فنجى هلال بن أمية من هذا الحد، والمثل في لغة العرب هو الحال العجيبة؛ فهذا أصل الكلمة.
(وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ) الذين يريدون أن يتقوا الله تبارك وتعالى فإذا قرؤوا سورة النور سيتقون؛ المرأة التي غرَّها المجتمع والثقافة الغربية وأعرضت عن الحجاب والعفة زمانا فإذا هداها الله تعالى لأحكام سورة النور فإنها إن كانت من المتقين ستتقي ربها، والذي غرته شهوته وساقته إلى فاحشة الزنا أو إلى إطلاق البصر ؛ الزنا الأكبر أو الزنا الأصغر، فإنه إذا قرأ سورة النور وتأدب بآدابها وكان يريد أن يتقي الله تبارك وتعالى فإن هذه السورة موعظة للمتقين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليه…
المَجْلِسُ السابع من مجالس تفسير سورة النور
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما بعد فهذا هو المجلس السابع في تفسير سورة النور وقد وقفنا عند قول الله تعالى:
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
فقد توسطت هذه الآية سورة النور، وسُمِّيت السورة باسم سورةة النور لهذه الآية (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) والنور هو الهدى؛؛ فلان يمشي على نور يعني على هدى؛ على بينة، فقوله -تعالى- (الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) كما قال ابن عباس رضي الله عنه: "هادي أهل السماوات والأرض"، يعني هذا الهدى الذي عليه المخلوقات في السماوات والأرض هو من الله تبارك وتعالى، وإلا فتلك الخلائق ليس لها من أنفسها هذا الهدى ولكن الله تعالى هداها لما خلقها له، ولذا فإن موسى عليه السلام كانت حجته على فرعون (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ) يعني أعطى كل مخلوق صورة وخِلقة تصلحُ للوظيفة التي خُلق لها، ثم هداه لما خَلَقَه له، ولولا أنَّ الله تعالى هدى تلك المخلوقات لما خلَقَها له لم يكن لها من أنفسها هذا الهدى.
ونضرب على ذلك أمثلة؛ فمِن ذلك البذور التي يُلقيها الحُرَّاث في ظلمة الأرض فإذا تلك البذور ينبتُ منها أشجارٌ وافرة الظلال؛ وذات ثمار؛ وذات طعومٍ وألوانٍ مختلفة؛ وفيها نفعٌ للناس، والحقيقة أنها بذرة أُلقيت في ظلمة الأرض، فمن أين اهتدت لهذا النور؛ وخرجت إلى هذا النور، إلَّا أنّ اللهَ -تعالى- نورُ السماواتِ والأرض؛ هادي أهلَ السماواتِ والأرض، فبنورِه -تبارك وتعالى- اهتدت تلك البذور في تلك الظلمات إلى أن تصيرَ تلك الثمارَ الناضجة التي ينتفعُ بها بنو آدم ولذا يقول ربُّنا (أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)، يعني أنتم وذلك المخلوق ليس لكم من الصنيع -من الفعل- ما يَنبتُ به هذا النبات ويصيرُ في هذه الهيئةِ الحسنة، فالزراع يحرثون الأرض، ويُلقون البذور، ويَسقون، ولا يدرون عن نباتِها شيئا.
وتلك النُّطفُ التي في أرحامِ الأمهات؛ أو في أرحامِ الإناثِ من الخلائق، تتخلقُ في ظلماتِ الرحم (خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ)؛ فيخرجُ إنسانٌ مُصوَّر، له عينانِ، وأذنانِ، وقلبٌ نابض، ويدانِ، ورجلانِ، وله روح، فهذه النطفةُ كيف اهتدت إلا بنورِ ربِّها -تبارك وتعالى- أن تكونَ هذه الخليقة.
وتلك اللقمُ التي نلقيها في ظلمات بطوننا لا ندري عنها شيئا، ولكنَّ الله -تعالى- هيأ جهازًا هضميَا -المعدة- يطحنُ تلك اللقمة، ثم يرسلُها إلى الأمعاءِ فتستخلصُ منها الفوائد من البروتين والكربوهيدرات والدهون والمعادن والفيتامينات، وتوزع هذه الفوائد المستخلصة على أجزاء الجسم وأنت في نومك لا تدري عن ذلك شيئا، ولكن بنور الله تعالى وبهداه كان ذلك الصنيع، ثم تطرد السموم والفضلات وتخرجها عنك إلى مخرجها.
وكذلك يخرج ربنا تبارك وتعالى من ظلمات بطون الأنعام من بين الفرث والدم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين فلا ترى فيه لونَ الدم، ولا تشم فيه رائحةَ الفرث، وإنما خالصًا كما قال ربُنا وسائغًا للشاربين.
فهذه آيات بينات أن الله تعالى هدى تلك الخلائق لما خلقها له.
وعينك الباصرة كيف ترى النور! وهذا من آياته أيضا تبارك وتعالى، نافذتك على الدنيا هذه العين، تسقط الأشعة على عدستى العين -القرنية والعدسة (the cornea and the crystalline lens)- وتتجمع في نقطة على الشبكية، والشبكية تحول تلك الومضة الضوئية إلى نبضات كهربائية وترسلها إلى الدماغ -المخ-، وهذا المخ في جمجمة مغلقة لم يرَ النور يومًا؛ في هذا الظلام الذي لم يخرج منه يومًا ومع ذلك يترجم تلك النبضات الكهربائية إلى صور حية، ولا يكون ذلك إلا بنور الله -تبارك وتعالى-.
وغير ذلك من آياته -تبارك وتعالى- في نفس الإنسان، الملحدون وإمامهم داروين كانوا يقولون أن الحياة مادة، فلما اكتشفوا المادة الوراثية DNA علموا أن الحياة ليست مادة؛ الحياة معلومة تتصور على أساسها المادة، ربنا خلق معلومات في كل خلية تسمى الشفرةُ الوراثية أو DNA، وهذه الشفرة الوراثية يتخلق على أساسها الحيوان أو الإنسان أو المخلوق الذي خلقه الله -تبارك وتعالى-، وكل معلومات هذا المخلوق محفوظة في هذه الشفرة الوراثية ومرتبة ترتيبا بديعا، الإنسان مثلا له 4 مليار حرف مرتبة بنظام معين في هذه الشفرة الوراثية، وهذه الشفرة الوراثية تتناسخ ذاتيا، فلو -مثلا- حصل نزيف واحتجنا فايبرين تنسخ لنا هذه الشفرة الوراثية فايبرين، فمن أين له هذا الهدى إلا أن الله تعالى هداه لما خلقه له.
وآيات الله تعالى في الخلائق لا تحصى، ففي الحيوان أيضا ترى الطيور تهاجر من الأماكن الباردة في موسم معين إلى الأماكن الدافئة، ويقطعون المسافات الطويلة، فمن أدرى هذه الطيور بدفء هذه الأماكن البعيدة وأنها بيئة صالحة للحياة، إلا أنهم يهتدون بنور الله -تعالى-، ثم إذا تم الموسم يرجعون إلى مواطنهم مرة أخرى لا يضلون عنها.
وإن تعجب فهجرة الأسماك في ظلمات الماء أعجب؛ لأن الأسماك يهاجر آباؤها وأمهاتها ثم تُخرج بيضها، وهذا الفقس يرجعون إلى مواطنهم بعد موت الآباء، فمثلا يهاجر سمك السلمون الأحمر والإنقيلس من المياه العذبة إلى المياه المالحة لأنه يعلم أن البيض لا ينضج إلا في المياه المالحة فيهاجرون في أشهر يناير وفبراير ومارس، وحتى صُياد السمك ينتظرونهم في رحلتهم ليرزقوا، فيهاجر الآباء إذا جاء موعد التكاثر في سن أربع أو خمس سنين إلى المحيط الأطلسي ويضعون فيه البيض ويعيشون قليلا ثم يموتون، ثم يخرج أبناء هذا السمك في الماء المالح فما أن يشب حتى يعود إلى مواطنه؛ إلى المياه العذبة مرة أخرى، فبنور من كان هذا الهدى؟!.
وفي ممالك الحيوان من مملكة النمل والنحل من آيات الله تعالى ما فيها، حتى أن النحل يشكل تلك الأشكال السداسية ويجعل فيها تهوية ويجعل فيها أماكن التخزين وأماكن للملكة وأماكن للشغّالات وأماكن لحفظ العسل، وفوق ذلك من آيات الله تعالى أنه يأخذ مستخلص الزهور ويخرج من بطونه شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، ولم نسمع أن الناس أنشأوا مصنعا للعسل، فهذا من آيات الله تعالى ومن هداه، فهو الذي أوحى وهدى (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)) فهذا وحي وهدى.
وهذه الحيوانات فيها آية أنها رغم هذا النظام البديع لا تأتي بجديد؛ لا تخرج عما سُخرت وخُلقت له، فالنحل الذي يصنع بيوته على أشكال سداسية وفيه التهوية والبدروم والتخزين إلى غير ذلك، لا يستطيع أن يتمكن في الأرض مثل الإنسان، لأنه مسخر لما خلق له، أما التمكين في الأرض فللإنسان فقط (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) بعدها آية (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ)، فذكر الله التمكين أولا رغم أن الخلق قبل التمكين؛ لأن الله خلقهم للتمكين، لذلك تقول الملائكة (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا)، وأما آدم فمُعلَّم يستنبط المعلومات ويبني النتائج على الأسباب ويُمكَّن في الأرض، وأما هذه الحيوانات فلها طريقة حياة معينة، تعيش بها وتهتدي فيها بهدى الله تبارك وتعالى.
والخفاش أيضا عجب؛ يرى بأذنيه، الخفافيش تعيش في كهوف مظلمة، ومع ذلك تتحرك بسرعة عجيبة في تلك الكهوف المظلمة، وتتحاشى الاصطدام، وتنقضّ على الفريسة بدقة عالية، وليس لها أعين؛ فبأي نور اهتدت! بنور الله تعالى، ربنا جعل لها رادار في أذنه يرسل موجاتٍ فوق صوتية ويستقبلها يعرف بها الأبعاد، وبعض الباحثين وضعوا له أسلاكا في تلك الكهوف، ظنوا أنها معتادة هذه الكهوف، فإذا الخفافيش تتحرك بنفس السرعة وتتفادى الاصطدام بتلك الأسلاك وتنقض على فرائسها، فبأي نور وبأي هدى.
وأركان النور منتشرة، الله هادي أهل السماوات والأرض، فما من مخلوق إلا وهو مهتد وقد أصابه من نور الله تعالى وهداه ما أصابه، ولذا فقد قال ربنا تبارك وتعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) لما ذكر الله في القرآن العنكبوت والنمل فالمشركون قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام كلام الله تعالى ويذكر العنكبوت! ويذكر النمل! يريدون أن الله -تعالى- لا يذكر هذه الحشرات المستقذرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) فكل شيء من مخلوقاته له فيه من الآيات ما له، فلا تستصغر النمل والعنكبوت، بل وأقل منه؛ البعوضة فما فوقها، كثير من المفسرين قال (فَمَا فَوْقَهَا) أي في الدقة؛ في الصغر.
تلك البعوضة تضع مادةً مخدرة على الجلد حتى لا تشعر بها، وعندها ست سكاكين، فتضع المادة المخدرة على الجلد؛ وبعد تشق بالسكين؛ وتضع الخرطوم؛ وخرطوم البعوضة في غاية الدقة حتى أن العلماء فشلوا في صناعة خرطوم بهذا السمك إلى زمان الناس هذا، ثم تحلل الدم هل هو صالح لها أم لا، ثم تضع مادة حتى لا يتجلط الدم، إلى غير ذلك من الآيات التي وضعها ربنا تبارك وتعالى في مخلوقاته.
فما من مخلوق إلا وهو دال على عظمة الله تعالى، وعلى أنه هادي أهل السماوات والأرض، وإلا فتلك المخلوقات ليس لها من أنفسها هذا النور وليس لها من أنفسها هذا الهدى، ولو سألت نفسك وأنت الُممكَّن في الأرض عن العمليات الحيوية التي تجري في جسمك حتى ترى وحتى تسمع وحتى تعقل وحتى تتحرك فإنك لا تدرك من هذا شيئا والله تعالى هو الذي هداك لما خلقك له.
لكن الإنسان مُخيَّر مُمكَّن، فهذا النور والهدي كل الخلائق وأنت -أيها الإنسان- أصابك من هذا النور ما كنت فيه مضطرا إليه لتعيش، أمّا الأمور الاختيارية فأنزل الله تعالى فيها نورا آخر وهو نور الوحي، فمن أراد أن يقتبس من هذا النور فليقتبس، (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) ابتلاء من الله تعالى بعدما أراك ذلك النور في الخلائق وفي نفسك وأنعم عليك بالنعم، أنزل لك نور وهدى القرآن أو كل كتاب أُنزل على نبي لقومه، وأرسل الرسل وقال لبني آدم هذا هو النور فمن شاء أن يقتبس من هذا النور فباب الله تعالى لا يُغلق عن أحد.
فلذا يقول ربنا تبارك وتعالى (مَثَلُ نُورِهِ) يعني مثل هداه الذي يجعله في قلوب المؤمنين (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) المشكاة هي فتحة في الحائط من جهة الداخل فقط، كوة في البيت لا منفذ لها، والمصباح في لغة العرب ليس معناها القنديل كله، لا؛ المصباح الفتيلة التي تضيء المصباح، لذلك قال الله -تعالى- (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) هذا الفتيل المضيء موضوع في زجاجة، فهذا النور مكتمل لأن المصباح؛ ذلك الفتيل المضيء؛ أحاطت به زجاجة تحميه من الهواء أن يطفئه، ومن الدخان أن يعكر صفوه، وهذه الزجاجة (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) يعني الزجاجة في نفسها نقية وفيها صفاء حتى أنها تضيء بنفسها؛ تتلألأ كالدر في لمعانه، الكوكب الدري هو الكوكب شديد الإضاءة في السماء، فتلك الزجاجة التي أحاطت بالمصباح (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ).
(يُوقَدُ) أي هذا المصباح أو الفتيل (مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ) كثيرة الخيرات والبركات، لها فوائد كثيرة وبركات وخيرات متتالية متواترة، (زَيْتُونَةٍ) وهو أصفى الزيت؛ زيت الزيتون، لذلك هو أغلى الزيت لو كان صافيا غير مغشوش، (لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) هذه الشجرة الزيتونة المباركة ليست شرقية وليست غربية، والشجرة الشرقية التي تشرق عليها الشمس فإذا مالت عن كبد السماء يَحجب عنها ضوءَ الشمس جبلٌ أو حائط أو شجر آخر؛ المهم أنها تصيبها الشمس إذا أشرقت فقط، والغربية تصيبها الشمس إذا غربت ولا تشرق عليها لوجود حائل بين تلك الشجرة وبين الشمس إذا أشرقت، لكن تصيبها إذا غربت. أما هذه الزيتونة ليست شرقية وليست غربية، هي وسط، فالشمس تصيبها طيلة النهار فينضج زيتها ويكون من أحسن الزيت ومن أصفى الزيت، حتى إنه (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ) فالزيت في نفسه؛ في صفائه ونقائه يكاد يضيء (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) وفهمنا من الآية أن هذا الزيت قد مسته النار فأضاء؛ فازداد إضاءة، لأن (وَلَوْ) مفهوم المخالفة أنه قد مسته النار، لكن الزيت في نفسه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار؛ كيف وقد مسته النار.
(نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ) يعني نور الزيت مع نور المصباح الذي اتقد، (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ).
وهذا المثل كل جزء من أجزائه له رجوع إلى جزء من أجزاء المشبه الذي هو هدى الله في قلب المؤمن، (مَثَلُ نُورِهِ) أي هداه الذي جعله في قلوب عباده المؤمنين:
(كَمِشْكَاةٍ) هي صدر المؤمن؛ إذا خلى من وساوس الشيطان ومن الحرج والضيق وانشرح للإيمان.
(فِيهَا مِصْبَاحٌ) المصباح -الفتيل- هو الهدى أو النور، الذي جعله في قلوب عباده المؤمنين.
(الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) الزجاجة التي أحاطت بالفتيل هي قلب المؤمن في صفائه ونقائه وأنه أبيض كالصفا لا تضره فتنة.
وهذا المصباح استمد زيته من شجرة، هذه الشجرة هي شجرة الوحي؛ القرآن والسنة، وهذه الشجرة لا شرقية ولا غربية، وإنما هي وسط، كشريعة الإسلام؛ وسط بين الشرائع ليس فيه آصار ولا أغلال. والزيت هو الإيمان الذي نستمده من الكتاب والسنة، فهذا الزيت هو الإيمان في قلب المؤمن حتى أن هذا الزيت يكاد يضيء، يعني يكاد الإيمان يبين على المؤمن ولو لم تمسسه نار؛ ولو لم يعمل أو يتكلم، فالنار هي القول والعمل، إذا عمل عملا صالحا أو قال قولا سديدا كانت تلك النار التي أضاءت ذلك المصباح.
هذا هو المراد من هذا المثل أنك توزع أجزاء المشبه به على أجزاء المشبه، وأزيدك؛ هذا الزيت الذي أخذته من شجرة الوحي المباركة كثيرة الخير وهي القرآن الذي كلما قرأته اقتبست منه تلك البركة وتلك الخيرات، هذا الزيت يحتاج إلى من يستخلصه، فكذلك أهل العلم الذين يستنبطون الأحكام من شجرة الوحي؛ من الكتاب والسنة.
(نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ) نور الإيمان ونور العمل.
(يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) هذا النور غير النور الأول، النور الأول اهتدت له جميع المخلوقات، فـ(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هذا هو الهدى العام الذي أصاب الخلق جميعا، لكن (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) هذا هو الهدى الخاص الذي أنت مخير فيه، فأنت حملت الأمانة، فإما أن تقتبس من هذا النور وإما أن تعرض إلى الظلمات.
(وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ) فهذا مثل مضروب (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) بالله وآياته.
(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلأنه تبارك وتعالى عليم بخلقه فهذا مثل ضربه لهداه.
وهذه الآية ليس لها علاقة بالنور الذي هو وصف ذات الله تعالى، إنما بإجماع السلف الآية في الهدى، لأن النور الذي يُضاف إلى الله تعالى، إما إضافة صفة إلى موصوف أو إضافة مفعول إلى فاعله، لو كانت إضافة صفة إلى موصوف فهذا نور ذاته تبارك وتعالى، و(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، "حِجابُهُ النُّورُ، وفي رِوايَةِ : النَّارُ، لو كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجْهِهِ ما انْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِن خَلْقِهِ." كما عند مسلم، (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا) (الزمر) أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق -تبارك وتعالى- للخلائق لفصل الخطاب؛ فهذا من باب إضافة الصفة إلى موصوف، فالمراد به نور ذات ربنا -تبارك وتعالى-.
وأما هذا النور هنا فليس نور الذات؛ وإنما هو من باب إضافة مفعول إلى فاعله؛ إضافة الهدى إلى فاعل هذا الهدى؛ إلى الله تبارك وتعالى، سواء كان الهدى الذي فعله في السماوات والأرض والخلائق جميعا في قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أو الهدى الذي جعله في قلوب عباده المؤمنين الذي هو (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ).
فإذا سمعت هذا واشتقت إلى هذا النور فقلت وأين أجد هذا النور فيقال لك:
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ) هذا يرفع حيرة المفسرين تماما في تعلق الجر والمجرور، فهو متعلق بسؤال، وقد دلنا على هذا قراءة ابن عامر وغير حفص عن عاصم؛ قرؤوا (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) -بفتح الباء المشددة في يسبح؛ على أنه مبني لما لم يُسم فاعله-، ثم (رِجَالٌ) هذه رأس آية لكي تتحمل القراءة الثانية، فهنا سؤال؛ أين هذا الهدى؟ ومن أهل هذا الهدى؟، فالمسلم أو السامع إذا سمع هذا المثل وعقله يقول أين أجد هذا النور؟ فيُقال له (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) وهي المساجد؛ مساجد الله تعالى التي أذن أن ترفع؛ أن تقام وأن تبنى بناء حسنا للمصلين؛ وأن ترفع يعني أن تُطهر من الدنس والنجاسات والخبث (وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).
(وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) يعني بالذكر والأذان وتلاوة القرآن وتعلم الأحكام وأقوام يجتمعون في بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم، فتغشاهم الرحمة وتنزل عليهم السكينة وتحفهم الملائكة ويذكرهم الله فيمن عنده.
(يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) بالغدو وهو أول النهار؛ صلاة الفجر، والآصال وهو آخر النهار؛ صلاة العصر، ورسول اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ صلَّى البرْديْن دَخَلَ الجنَّة متفقٌ عَلَيهِ.
من قرأ بقراءة الجمهور (يُسَبِّحُ) بكسر الباء يكون (رِجَالٌ) فاعل، ومن قرأ بقراءة حفص عن عاصم (يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) وقف على قوله: (وَالْآصَالِ) وقفا تام المعنى، ولكن يكون السؤال مستمرا؛ من أهل هذا النور فيأتيك الجواب:
رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
فأهل هذا النور هم (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) فلا تشغلهم الدنيا عن الآخرة، هم يمارسون الدنيا لأجل معاشهم، ويخالطون الناس، ويصبرون على أذاهم، يبيعون ويشترون ويضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، لكن ذلك لا يلهيهم عن ذكر الله؛ عن أحكام الله تعالى وإقامة دينه وشرعه، وذكره حتى في أعمالهم.
(وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) فإذا حانت الصلاة فالعمل ليس عبادة بل العبادة الآن هي الصلاة التي حان وقتها، ولا بيع ولا شراء، ثم بعد الصلاة يكون العمل عبادة إذا كان بنية صالحة، لكن لا يقدم على العبادة الأساسية التي اختبرنا الله بها في الأرض.
(لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ) البيع من التجارة، فهذا من عطف الخاص على العام، لأن الناس عندهم رغبه في البيع لأن فيه المكسب، فإذا جاءتك صفقة في وقت الصلاة هل تغلق الحانوت -المحل- أم ستقول الصفقة غالية وتؤثر الدنيا على الآخرة.
(وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) يعني أداءها حتى تكون قائمة، تقيم الشيء أي تؤديه أداءً حسنًا، فتؤدي ركوعَها وسجودها، في وقتها، ليست كصلاة المنافق حتى إذا قربت الشمس على الغروب قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا، وأما المسلمون فهم رجال يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة؛ يعني يخرجون حق الله تعالى في أموالهم، هذه صفاتهم.
(يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) قلوب هؤلاء دائما أمام أبصارها ذلك اليوم، فهم في كل أعمالهم يخافون ذلك اليوم؛ يذكرون ذلك اليوم ويعملون له؛ لأنهم يخافون هذا اليوم الذي تتقلب فيه القلوب، (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ)، وتتقلب فيه الأبصار لكثرة الأهوال؛ تتطاير الصحف ويجيء الله تعالى لفصل القضاء ويُجاء يومئذ بجهنم، فتتقلب الأبصار لكثرة الأهوال.
فهؤلاء الرجال يقول الله تعالى عنهم:
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
(لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ) يعني عند الجزاء ربنا يطمئنهم أنه سيجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون، فيختار لهم أحسن العمل ويجزيهم عليه، أو قل أن أحسن هنا لا تفضيل فيها؛ يعني بحسن أعمالهم ويكفِّر عنهم أسوأ الذي كانوا يعملون، وقل هنالك أيضا منزوعة التفضيل والمراد بها سيء العمل. فالله تعالى يختار حسن العمل للمؤمن ويبرزه له، كما في الحديث "إنَّ الرجلَ ليتكلم بالكلمةِ من الخيرِ، ما يعلم مبلغَها ؛ يكتب اللهُ له بها رضوانَه إلى يومِ يلقاه" تخيل هذا العبد سيلقى الله فيقول له ربنا تذكر يوم كذا لما قمت فقلت كذا وكذا فيقول يا رب أذكر فيقول له ربنا قد رضيت عنك من يومها؛ فتخيل فرحة هذا المؤمن بمثل هذا المقام بين يدي الله تعالى.
فالله يصطفي للمؤمنين أحسن أعمالهم ويجزيهم بها، وليس ذلك فقط بل (وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ) فلن يعطيَ على قدر الأعمال بل يعطي بالفضل، وفضله تبارك وتعالى خير لهم من جميع أعمالهم.
(وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي غني من أغنياء الدنيا عندما ينفق يحسب ماله كم سينقص بهذه النفقة؛ فينفق أو يمسك، لكن الله تعالى إذا أنفق لا يحسب لأن خزائنه ملأى لا تنفد، يعطي بغير حساب، والله يرزق من يشاء بغير حساب فنسأل الله تعالى أن يدخلنا في رزقه الذي هو بغير حساب.
وصل اللهم على محمد والحمد لله رب العالمين.
المَجْلِسُ الثامن من مجالس تفسير سورة النور
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد، فهذا هو المجلس الثامن في تفسير سورة النور وقد وقفنا عند الآية التاسعة والثلاثين وقول الله تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ …
هذان مثلان ضربهما الله تعالى لأعمال الكافرين، لما اقتبس المؤمنون من النور الذي في قوله تعالى (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) فكانوا على نور وهدى من ربهم؛ فإن الكافرين لهم أعمال، وأعمال الكافرين مثلها كأحد هذين المثلين؛ (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) وقيعة أي أرض منبسطة؛ أرض فضاء مستوية، والسراب هو ما يراه الناظر بعد الظهر من اللمعان البعيد يحسبه ماءً، ما يكون في أول النهار وبعد العصر اسمه في اللغة الآل، لكن ما يكون بعد الظهر اسمه السراب، والآل يُرى مرتفعا قليلا فترى مثلا السفينة في الهواء، لكن السراب يُرى ظهرًا على الأرض؛ فتحسبه ماءً، والظمآن ينخدع فيه أكثر خاصة وأن العطش يغبش الرؤية، فيسعى إليه، ويجدُّ في طلبه (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) فهذا مثل لأعمال الكافرين أنهم يعملون من الصالحات في الدنيا؛ كأن يُطعمَ فقيرا ومسكينا، أو ينصرَ مظلوما، أو يحسن إلى الناس، أو يتقن صنعته، كل ذلك أعمال يظن أنها تنفعه عند الله، فإذا جاء يوم القيامة لم يجدها شيئا، يجعلها الله تعالى هباء منثورا، لأنه أُعطي أجره عليها في الدنيا، قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم "إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بها في الدُّنْيا ويُجْزَى بها في الآخِرَةِ، وأَمَّا الكافِرُ فيُطْعَمُ بحَسَناتِ ما عَمِلَ بها لِلَّهِ في الدُّنْيا، حتَّى إذا أفْضَى إلى الآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ له حَسَنَةٌ يُجْزَى بها"، فالكافر يأخذ أجره في الدنيا؛ الصحة والعافية والأموال والبنين وما أُطعم في الدنيا، وأما في الآخرة فيبعثون ويظنون أن لهم أعمالا صالحة فيجدونها هباء منثورا، مثلهم كمثل هذا الرجل؛ ظمآن يحتاج إلى الماء بل في شدة الحاجة إلى الماء فيرى هذا السراب (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا).
(وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ) هذا انتقال من المثل إلى الحقيقة، وهذه طريقة القرآن في ضرب الأمثال، فالمثل مشبه ومشبه به، وعادة القرآن في ضرب الأمثال أن ينقلك من المشبه به إلى الحقيقة، فأول مثل في القرآن (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) فالمشبه به النار، ولم يقل الله (ذهب الله بنارهم)، فهنا يضرب ربنا للنفاق مثلا؛ أنهم ذاقوا حلاوة الإيمان وعرفوا أن الله حق ثم كفروا بعد إيمانهم، فمثل المنافق كمثل الذي استوقد نارا، هذه النار أضاءت له وأبصر ما حواليه، ورأى الطريق ورأى ما يضره فيتحاشاه، فهذه النار مثل مضروب للإيمان؛ نور الإيمان، الذي يرى به الإنسان حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، ثم هذا المنافق آثر الدنيا على الآخرة وكفر (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ)، فيقول الله تعالى في المثل (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) فهذا انتقال من المثل إلى الحقيقة، فالمثل ذهب الله بنارهم، لكن لما كانت هذه النار المقصود منها النور والإضاءة فربنا ينقلك إلى الحقيقة، ذهب الله بنارهم هؤلاء أهل المثل، لكن في الحقيقة ذهب الله بالنور الذي كانوا عليه، فهذا اسمه انتقال من المثل إلى الحقيقة. ويحسن هذا الانتقال في القرآن تشابه المثل والحقيقة، فالنار أصلا مضيئة والمقصود منها النور الذي فيها فلما تسمع (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) لا تجد فرقا كبيرا، فتنتقل من المثل إلى الحقيقة بلطف.
ومثل آخر أوضح في سورة التوبة، يقول تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ) هم أهل قباء الذين أسسوا المسجد على التقوى والإيمان، (خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) الجُرُف قطعة من الأرض جَرَف السيل ما تحتها، فتحتها خاوي، (هَارٍ) متهور ذهب أكثره، (أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) هذا مثل والحقيقة أنهم بنوا مسجد الضرار على غير الإيمان، ربنا قال في المثل (فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) فهذا انتقال من المثل إلى الحقيقة، لأن المثل انهار في الأرض، لكن الله نقلك إلى الحقيقة، يقول أنهم انهاروا ببنيانهم في نار جهنم، ويحسن هذا الانتقال أن جهنم عميقة.
وهنا في سورة النور المثل واحد ظمآن رأى سرابا حسبه ماء، وهذا مثل لأعمال الكافرين حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ثم ينقلك الله إلى الحقيقة، في الحقيقة لما يأتي أعماله في الآخرة ويجعلها الله تعالى هباء منثورا فيجد الله عنده (فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) أي حساب كفره، فيكون المعنى والذين كفروا فلم يؤمنوا بالله تعالى لن تنفعهم الأعمال الصالحة، فأعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا وجده سرابا فلم ينتفع به ثم فى الآخرة إذا حشر فى أرض بيضاء عفراء ليس فيها علم لأحد ولم يجد أعماله الصالحة وجد الله عند ذلك ولقيه فردا فوفاه الله حساب كفره.
(وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) لأنه يعلم ما لك وما عليك فلا يحتاج إلى عد أو عقد بالأصابع، فيوفي هؤلاء الكافرين حسابهم فلا تنفعهم الأعمال الصالحة، لأن الإيمان شرط في قبول العمل، فمهما عملوا من عمل صالح وحسِبوه نافعا لهم عند الله فهو كسراب بقيعة لا ينفعهم؛ عائشة قالت قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ابنُ جُدْعانَ كانَ في الجاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، ويُطْعِمُ المِسْكِينَ، فَهلْ ذاكَ نافِعُهُ؟ قالَ: "لا يَنْفَعُهُ، إنَّه لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتي يَومَ الدِّينِ"، كان لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يرجو ثواب الآخرة، كان كافرا بالله تعالى فلا ينفعه ذلك العمل. وحتى في سقاية الحاج لما المشركون قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام نحن عمار المسجد الحرام ونسقي الحجيج فربنا أنزل (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ)، فالإيمان لا يعدله شيء ومع الكفر لا ينفع العمل الصالح.
فهذا مثل لأعمال الكافرين، والمثل الثاني في قوله:
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ۗ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40)
المثل الثاني لأعمال الكافرين (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ) الفرق بين هذا المثل والمثل الأول أن المثلَ الأول مثلٌ لأعمال الكافرين الصالحة المستمدة من الوحي؛ فهي من آثار النبوة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية كل خير عليه البشر فهو من آثار النبوة؛ أي من آثار الأنبياء الذين بعثوا، أما هذا المثل؛ المثل الثاني فهو مثلٌ لأعمال الكافرين الفاسدة، الذين أعرضوا فيها عن هدي الأنبياء، كالثورة الجنسية أواخر الستينات في أوروبا، والمساواة بين الرجل والمرأة في كل شيء؛ وأن لها ما للرجل وعليها ما على الرجل، وغير ذلك مما حادوا فيه عن آثار الأنبياء، كل هذه الأعمال الفاسدة (كَظُلُمَاتٍ) ليس فيها نور، تدمر الأسر والمجتمعات كما حدث نتاج الثورة الجنسية في أوربا، والنساء لم ينتفعن بشيء من مساواتها بالرجل، بل أصبحت المرأة مهانة، يُتمتع بها في الحرام ثم تترك دون أي حقوق لها كحقوق الزوجة في الإسلام من مهر ونفقة وميراث وغير ذلك، بل ويجب على المرأة أن تعمل وتكد وتجتهد وتنفق على البيت مثلها مثل الرجل إضافة إلى أعمال البيت، فهذا ما جنته المرأة من مساواتها بالرجل.
ونظام الأسرة في أوروبا مدمر مع أن الثورة الجنسية لم يمض عليها إلا حوالى خمس وخمسون سنة، فأكثر الناس ممن أعمارهم فوق الستين والسبعين الآن يعيشون في غير أسرة، معظمهم يعيش وحده بغير أسرة، ويموت وحده فلا يُعرف موته إلا من انتشار رائحة نتن جثته في بيته، لأنه أمضى شبابه في الزنا دون زواج، ولو حملت عشيقته فقد أباحوا لها الإجهاض وقتل النفس، (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ).
وكذلك كل عمل ظن الناس فيه أنهم يحيدون عن الكتاب والسنة لأجل أن يستنيروا فهم في الحقيقة يدخلون في ظلمات لا تنتهي، والله تعالى جاءهم بالنور المبين ولكنهم كفروا بالله تعالى وظنوا أن عقولهم أسمى من الشريعة التي أنزلها الله، ظنوا أنهم يعلمون وأن الله تعالى لا يعلم، لكن الله تعالى أنزل أحكاما عادلة؛ يرى فيها مآلات الأمور، ممكن يكون فيها شدة عليك، كتحريم الزنا وشاب يريد أن يفرغ شهوته، والله يقول له (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا) لكن ذلك حتى يستقيمَ مجتمع كامل؛ وتستقيمَ أمة كاملة.
فالله تعالى يحكم أحكاما عادلة لكن أهل الضلال يصورون للناس - باطلا وزورا - أن أحكام الله تعالى فيها ظلم، والحقيقة أن ما شرعوه هو الظلم بعينه؛ وهو الظلمات بعينها، في أوروبا مثلا لما قالوا حق المرأة المتزوجة نصف ثروة الرجل! وظنوا أنهم أنصفوا المرأة، فأعرض الرجال عن الزواج، فلاعب الكرة مثلا لماذا يتزوج ويعطيها نصف أمواله وهو يعيش معها بدون هذه الإلزامات الظالمة.
فيقولون نحن أنصفنا المرأة بمساواتها بالرجل، والحقيقة أنهم ظلموها لأن العدل ليس هو المساواة، فلو عندك عامل قوي وعامل ضعيف أو ابن يستطيع التحمل وابن ضعيف لو عند توزيع المسؤوليات حمَّلت القوي مثل الضعيف وقلت هذا عدل ومساواة، نقول لك لا؛ هذا ظلم وإن كان فيه مساواة، لأن كل انسان ربنا أعطاه قوة أو مهارة خاصة به يستخدمها في أشياء مناسبة له، فكذلك الفرق بين الذكر والأنثى ربنا فرَّق بينهم؛ في البنية والطبيعة والعقلية والخلقة، أما أصحاب المساواة انتفت عقولهم حتى أصبحوا لا يرون فرقا حتى في الخلقة!
أوروبا تقدمت وأصبحت أمما ناهضة لما أخذوا من آثار النبوة، لما عرفوا أن الإسلام يأمر بالعدل والإتقان إتقان الصنعة وينهى عن الظلم ولا يؤثر الأغنياء في الوظائف العليا إلى آخره، فعدلوا إلى حد ما فكانت نهضتهم التي هم عليها، فما هم عليه من النور من آثار النبوة، وما هم عليه من الظلمات فمن ترك آثار هذه النبوة.
(أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ) أي أن أعمال الكافرين لو كانت صالحة فهي كسراب بقيعة في الآخرة، تنفعهم في الدنيا ولا تنفعهم في الآخرة، ولو حادوا عن أثر النبوة فيها فهي (كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ) بحر عميق.
(يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) فهذا المثل لرجل خاض البحر حتى وصل إلى لجته، إلى عمق البحر، مثلهم في زماننا كالتنويريين، لما قالوا تحرروا من ظلام الشرائع والأديان، وزعموا أنهم آتون بالنور، فخاضوا بأتباعهم في ظلمات بحر لجي حتى وصلوا إلى عمق هذا البحر، (يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ) أي تراكمت أمواجٌ يعلو بعضُها بعضا، فتزيد الظلمة، (مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ) يعني حتى ضوء النجم والهلال احتجب عنه بالسحاب، (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) فعندك ظلمة البحر اللجي العميق وظلمة الأمواج التي يعلو بعضها بعضا وظلمة السحاب الذي حجب ضوء النجم والهلال وظلمة الليل، (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) فهؤلاء التنويريون هم الظلاميون في الحقيقة، وهذا مثل للشبهة التي يسمونها حجة، الشبهة تجد فيها ضعفا شديدا جدا ومع ذلك يتشبثون بها، فبعد أن خاض هذا التنويري بأتباعه هذا البحر العميق المظلم وبالكاد رأوا أيديهم قال هذا هو النور الذي جاء به!
ومثلهم أيضا أصحاب نظرية التطور، لما زعموا وجود أدلة على التطور، نظرية التطور قائمة على الانتقاء العشوائي ووجود كائنات وسيطة، وبالبحث في الأرض والصخور يفترض أن نجد حفريات لا عدد لها من هذه الكائنات الوسيطة المزعومة، ولكنهم بعد البحث في الأرض والصحاري بما أوتوا من إمكانيات وتكنولوجيا متقدمة ماذا وجدوا من هذه الحفريات الوسيطة؟! وجدوا عظْمةً زعموا أنها ضرس لكائن وسيط بين الإنسان والقرد، ويأتون برسام يرسم من هذا الضرس كائنا وسيطا بين الإنسان والقرد، ويصور ويُنشر في بحث علمي محكم! أو يقولون وجدنا فقرة عظمية لحفرية حوت من فقرات ذوات الأربع ثم يرسمون -تخيلا- من هذه الفقرة حوتا له أربعة أرجل! فهذه أدلتهم على ما هم عليه الباطل والظلمات، ويزعمون أنهم على علم ونور.
وحتى لو وجدوا حفرية كاملة لحوت بأربعة أرجل؛ يخلق الله ما يشاء، فمن قال لك أن هذا الحوت كان يعيش على سطح الأرض بأربعة أرجل ثم نزل البحر أو المحيط فأعجبه فاختار أن يسكن الماء ثم انقلبت رئتيه خياشيما، وأصبح جسمه انسيابيا لتناسب الحياة في الماء، ثم جاء من نسله باقي الأسماك وجميع كائنات البحر!
مثل هؤلاء حقا كمن أخرج يده فلم يكد يراها لضعف النور حوله ثم يزعم أنه على نور، ويسمي هذا النور الضعيف جدا حجة، وهي في الحقيقة شبهة لا قيمة لها، والظلمات تحيط به من كل جانب.
بخلاف المؤمن، ربنا قال عن أمره نور على نور، نور الإيمان ونور العمل، يزداد نورا بالعمل والقول مع الإيمان، ويستمد النور من الشجرة المباركة.
(وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) فمصدر النور الوحيد هو الله؛ نور السماوات والأرض، لا يوجد نور غيره، فمن أراد الهدى عليه أن يهتدي بنور الله تعالى، لذلك كان هذا هو مثل الكافرين في الدنيا، أنهم لو اهتدوا بشيء من آثار النبوة ومن آثار وحي الله تعالى كان نورا لهم في الدنيا، ولو حادوا عنه كانوا في الظلمات، المسلمين كذلك فالله ليس بينه وبين الناس نسبا، من يمشي على السبيل يهتدي، ومن يضل عنه ويبدل ويغير يصيب من الظلمة بقدر ما غير وبدل.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
يعني لا تأسى على الكافرين، إن كان أكثر الناس أعرضوا عن دين الله تعالى وكفروا بربهم فالله يقول لك هناك ملكوت عظيم في السماوات والأرض مهتدي؛ على النور.
(أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم (أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ) يعني من الملائكة (وَالْأَرْضِ) يعني ومن في الأرض، (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) يعني حتى الخلائق التي هي بين السماء والأرض من الطيور التي تصف أجنحتها في السماء فهي أيضا تسبح بحمد ربها، وخصها بـ (صَافَّاتٍ) لأنها تكون كذلك إذا كانت فى وضع الطيران بين السماء والأرض.
(يُسَبِّحُ لَهُ مَن) (مَن) للعاقل والمخلوقات في السماوات والأرض فيها العاقل وفيها غير العاقل، فإما أن تقول غُلِّب العاقلون؛ لأن الملائكة والإنس والجن الصالحين داخلون في الكلام، وإما أن تقول أن هذه الكائنات لما كانت تسبح ففي هذه الحالة نزلت منزلة العاقل، لأن من يسبح في عرف الناس هم العقلاء، فلما تكلمنا عن هذه المخلوقات بالتسبيح نزلناها منزلة العاقل.
(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) يعني كل مخلوق من هذه المخلوقات له صلاة خاصة به وله تسبيح خاص به، ممكن تكون صوصوة العصافير تسبيحا ونقنقة الضفادع تسبيحا.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) لا يخفى عليه تسبيحهم وتنزيههم لله تعالى.
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
يعني كل ما في السماوات والأرض ملك له وكلهم صائرون إليه، فالعابد في مملكته وتحت قهره وسلطانه، والكافر أيضا في مملكته، لكن يمهل الكافرين إلى يومٍ يصير الناس فيه إلى ربهم. فمصير الجميع إليه (وإلى الله المصير)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ ۖ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
وهذا مثل مضروب لقدرة الله تعالى، أن الله تعالى (يُزْجِي سَحَابًا) يزجي يعنى يسوق؛ أو يدفع، (وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ) يعني مدفوعة، لا يرضى بها التجار ويدفعونها.
(ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) يعني يجتمع هذا السحاب، قطع السحاب تتجمع، (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا) يجعل السحاب بعضه فوق بعض، (وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ) فمن آيات الله تعالى أن هذا السحاب الثقيل الذي يحمل أطنانا من الماء يحمله تبارك وتعالى على الهواء.
ورد عن السلف أن السحاب أول تجمعه من الأرض، كما يقول أصحاب العلوم في زماننا؛ يقولون أن السحاب يتجمع من مياه البحار أولا، روى ابن أبي حاتم عن عطاء قال: "السحاب يخرج من الأرض ثم تلى (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا)" فهم من قوله تعالى (فَتُثِيرُ سَحَابًا) يعني تجمعه أول ما تجمعه من الأرض،
وقال عبيد بن عمير الليثي : يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قما، ثم يبعث الله الناشئة فتنشئ السحاب، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه. رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، رحمهما الله. يعني أول شيء الرياح المثيرة تثير سحابا ثم التي تنشئ السحاب يعني في جو السماء ثم يؤلف بينه.
(فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) الودق هو المطر، يخرج من ثنايا هذا السحاب.
(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ) فغير المطر النافع للناس ينزل أيضا البرد الذي يضر الزرع ويتلفه، وهذا أيضا من آيات الله تعالى أنه يرسل ما ينفع ويرسل ما يضر وكلٌّ بقدرته وحكمته. وهذا البرد موجود في سحب متراكمة كثيرة في السماء كأنها على هيئة الجبال، وهذه الأوزان الثقيلة تحملها الرياح في جو السماء بقدرة الله تعالى.
(فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ) هذه الإصابة مصيبة تحل على قوم، نزول المطر خير وبركة ونزول البرد مصيبة، (فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ).
(يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) ؛ يكاد سنا برق هذا السحاب
وهذا أيضا من آياته تبارك وتعالى، أن هذا البرق في سناه يعني في ضوئه ولمعانه يكاد من شدته -لولا رحمة الله بالعباد- يذهب بالأبصار.
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
لا يزال الله ينبهنا لآياته، آيات الطير التي هي صافات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله، وآيات السحاب الذي يرسل الله تعالى به الخيرات والبركات ويجعله على قوم آخرين مصائب وبلاء، ومن الآيات أن الله تعالى جعل ليلا ونهارا يتعاقبان، (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ).
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ ۖ فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ ۚ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
فمن آياته تعالى أيضا (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ) يعني كل الخلائق في أصل خلقتها تجد تركيب الحيوانات التي تدب على الأرض من إنسان أو طير أو حيوان أو حيتان فتجد الماء عنصرا أساسيا في تركيب هذه المخلوقات، ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، لا يستطيع حيٌّ من هذه الأحياء التي نعلمها أن يعيش بغير الماء، (خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ) ثم دل اختلاف هذه المخلوقات على إرادة الله تعالى، لما تجد صانعا يصنع شيئا واحدا فهذا حافظ لهذا الشيء ولا يجيد غيره، غير لما تجد صانعا متفننا يصنع صنعات مختلفة فتعرف أن هذا المتفنن يصنع صنعات مختلفات وكل صنعة لها وظائف ولها قدرات غير الصنعة الأخرى، فهذا يدلك على قدرة هذا الصانع وعلى علمه وحكمته، فكذلك الله تعالى خلق خلقا متنوعا (فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ) مثل الحيات والزواحف تمشي على بطونها، (وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطير إذا مشى يثبت على رجلين، ويحفظ توازنه على هاتين الرجلين في مشيته بقدرة الله تعالى وإلهامه لتلك المخلوقات، (وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ) وعندما ترى باقى الكائنات ذوات الأربع وهي تمشي تحتار في كيفية مشيتها! ومنهم من يمشي على أكثر لكن الله يلفت لنا الانتباه أن في اختلاف المخلوقات وتنوعها دال على القدرة والعلم والحكمة. فمثلا ما نسميها أم أربعة وأربعين لأن لها أربعة وأربعين رجلا وتتحكم فيهم بقدرة الله تعالى.
(يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) يفعل الله تعالى ما يشاء بقدرته، (إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ ۚ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46)
في الربع السابق (وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ) أما هنا (لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ) فلا توجد (إِلَيْكُمْ) لأن في الأولى كانت المنة على المسلمين خاصة أما هنا فالحجة على الناس أجمعين وليس الموضع موضع امتنان.
ولما كان إقامة حجة قال (لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ ۚ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
وصل اللهم على محمد والحمد لله رب العالمين
المَجْلِسُ التاسع من مجالس تفسير سورة النور
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد، فهذا هو المجلس التاسع في تفسير سورة النور وقد وقفنا عند الآية السابعة والأربعين يقول الله تعالى:
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
في هذه الآيات يصف ربنا تبارك وتعالى حال فريق من الناس؛ وهم المنافقون، لماذا؟ لأن الآيات التي تقدمت ذكر الله فيها أهل الإيمان الذين اقتبسوا من النور والهدى وأن الله تعالى سيجزيهم يوم القيامة بأحسن ما كانوا يعملون، ثم ضرب مثلا للكافرين وأعمالهم، ثم ذكر حججه وآياته وبراهينه على وحدانيته…
هنا في حضور ذهني في أذهان المسلمين للمنافقين لما يسمعون الحجج والبراهين والآيات والهدى، فيقول المسلم يا رب هؤلاء الذين يدَّعون الإيمان ويصلون معنا ويصومون معنا من أهل النفاق الذين لهم صفات غايروا بها أهل الإسلام؛ هل هم على الهدى؟! فيأتيه الجواب؛
(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ) صفة هؤلاء المنافقين أن إيمانهم لا يجاوز ألسنتهم (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا)، (وَأَطَعْنَا) أي نفذنا أمر الله وأقمنا دين الله تعالى في بيوتنا وعملنا الخير وأخرجنا الزكاة ويعددون أعمالا صالحة، (ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ) في وقت الجد لما تدعوه إلى طاعة فيها مشقة أو فيها بذل أو فيها مجهود على النفس لا يستجيبون، (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ) في غير المشقة يظهر ويتبع، يعمل الطاعات السهلة أمام الناس، أما وقت الشدة والتضحية وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله يتخلفون؛ (يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ) يعني من بعد قولهم (آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا)، فحكم الله عليهم حكما (وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) من يتولى حين حاجة الإسلام إليه وليس له عذر ففي الغالب هو من المنافقين، غالب أمره أنه ليس من أهل الإيمان، أكثر الذين تخلفوا عن النبي عليه الصلاة والسلام في تبوك بغير أعذار كانوا من المنافقين إلا قليلاً مثل الثلاثة الذين خُلفوا ، فهؤلاء الذين تخلفوا عن الغزو في تبوك وثبطوا المسلمين عن الجهاد وقالوا لا تنفروا في الحر وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله فعملوا المعصية واطمأنت قلوبهم بها وفرحوا بتخلفهم عن النبي عليه الصلاة والسلام في الغزو فحكم الله تعالى فيهم وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ.
(وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ) من أبرز صفات المنافقين أنهم عند الحكم والتحاكم لا يتحاكمون إلى الكتاب والسنة، لما تدعوهم إلى حكم الله وحكم رسوله عليه الصلاة والسلام تجده معرضا، يبتغي حكم فلان أو حكم القوانين الوضعية أو أعراف الناس، ويُعرض عن حكم الكتاب والسنة، مثلا لا يريد توريث البنات فإذا دعوته إلى حكم الله تعالى وحكم رسوله ودعوته إلى الآيات التي شرع الله تعالى فيها أحكام الميراث وحقوق النساء أعرض ورفض.
(وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) لو كان الحق لهم يقولون لك نريد حكم الله، فمثلا امرأة تطالب أخاها بميراثها من أبيها وتقول هذا حكم الله وشرعه؛ وهي نفسها تحرض زوجها ألا يعطي حقوق أخواته البنات، فلما كان الحق لها قالت نريد حكم ربنا وشرع ربنا، ولما كان الحق على زوجها حرضته على خلاف هذا الحق، (يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) يعني في غاية الانقياد، يقال ناقة مِذعان أي سلسة، فهذا دأب المنافقين؛ لو كانت الشريعة تعطيهم تجدهم مذعنين لها، أما لو الشريعة تفرض حقا في أموالهم مثلا حينئذ يتولون عن حكم الله تعالى وحكم رسوله، لذلك المسلم ينبغي أن يكون فطنا، فليس كل من تكلم بالشريعة في موطن كان ذلك عن إيمان حقيقي، بل ربما كان ذلك لحاجة أو لهوى نفسه، يعني مثلا امرأة تطلب الطلاق من زوجها لأنه ارتكب كبيرة الزنا، فتطلب الطلاق للضرر وتطالب بحقها كاملا، وهو هو نفس الزوج ينام عن صلاة الفجر ويأكل الربا ويغش ويخدع في صنعته ويأكل أموال الناس بالباطل وممكن يكون مدمنا للخمر إلى غير ذلك من الموبقات العظيمة ولم تلتفت إليها، ولكنها التفتت لكبيرة الزنا غيرة على نفسها، فلم تطلب حكم الله لأنه حكم الله، وإنما لأنه وافق هواها، فالمنافقون أحيانا يتكلمون بالكتاب والسنة لو كان الأمر سهلا، حتى يخادعوا الذين آمنوا، أو لو كان الحق لهم، أما أن يكون الحق عليهم فلا ينقاد حينئذ إلا المؤمن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) فتجد المؤمن يقوم لله تعالى ولو على نفسه ولو على الوالدين والأقربين؛ يقوم بالقسط، تجده يؤدي الحقوق ولا يطمع في أموال الغير، فالمسلم ينقاد لحكم الله تعالى ويقيمه ولو كان فيه مشقة على نفسه، قال رافع بن خديج رضى الله عنه : "نَهانا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم عن أمرٍ كانَ لَنا نافعًا وطواعِيةُ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أنفَعُ وأنفَع" هذا شعار المؤمن، لو كان الأمر له أو عليه ينقاد لأمر الله، تجده مثلا في معاملاته مع زوجته يؤدي إليها حقها ولا يظلمها؛ حتى لو نشزت أو غاضبته أو نحو هذا، وكذلك في كل معاملاته. فليس معنى أن تحتك مثلا أناس موظفون أنك تأكل حقهم بالباطل أو أناس ضعفاء أنك تعتدي عليهم، في الحديث الشريف أن أبا مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِن خَلْفِي صَوْتًا: "اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عليه"، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هو رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، هو حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقالَ: "أَما لو لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ".
المقصود أن التكاليف الإسلامية لا شك فيها مشقة على النفوس، حُفت الجنة بالمكاره؛ كما قال عليه الصلاة والسلام، والمؤمنون لما تأتيهم تلك التكاليف يقولون سمعنا وأطعنا بل يقومون لله تعالى ولو على أنفسهم أو على أبنائهم، تجدهم قائمين لله تعالى، بخلاف المنافقين إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ.
أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
هذه حقيقة المنافق؛ في قلبه مرض ويرتاب أي يشك في الإسلام ويشك في أقوال الله تعالى وأحكامه وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم، ويخاف أن يحيف الله عليه ورسوله يعني إذا دُعيَ إلى حكم الكتاب والسنة؛ إلى العدل، يخاف أن يكون حكم الله تعالى وحكم رسوله حيفا؛ والحيف هو الجور؛ الميل في الحكم والجنوح إلى أحد الجانبين، يقال تحيفت الشيء أخذته من جوانبه، مثل حافة الطريق وحافة اللسان، قال بعض الفقهاء يُرد من حيف الناحل ما يُرد من جنف الموصي، وحيف الناحل: أن يكون للرجل أولاد فيعطي بعضا دون بعض، وقد أُمر بأن يسوي بينهم، فإذا فضل بعضهم على بعض فقد حاف، هذا هو مذهب الحنابلة ومذهب الجمهور أن الأب له أن يعطي أبناءه فى حياته بغير تسوية وأن هذا على الكراهة وليس على التحريم.
فهؤلاء المنافقون خائفون من ظلم الله وظلم رسوله! والله تعالى أعدل الحاكمين وأحكم الحاكمين ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا عن حكمه تبارك وتعالى، فلما اتهموا أحكام الله بالظلم قال الله تعالى فيهم (بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) يعني هؤلاء هم الظالمون على الحقيقة، مع قصر الظلم فيهم، وهذا اسمه قصر إضافي لتأكيد تلبسهم بالظلم.
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أول ما تدعو المؤمن إلى حكم الله وحكم رسوله لا يتردد ويقول سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا حتى قبل أن يعرف الحكم، بعضهم يذهب إلى دار الإفتاء فإذا كانت الفتوى على هواه قال لخصمه نحتكم إلى المفتي، وإذا كانت على غير هواه كتم الأمر، أما المسلم من غير أن يعرف الحكم؛ إذا دُعي إلى حكم الكتاب والسنة أجاب مهما كان الحكم، يحكم الله تعالى ورسوله بالحق والعدل ونؤدي للناس حقوقهم ونحتسب ذلك عند الله والله تعالى لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
(وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حصر الفلاح فيهم، لأن الفلاح: الفوز بالمطلوب، والنجاة من المكروه، ولا يفلح إلا من حكّم الله ورسوله، وأطاع الله ورسوله.
وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
ختم الله -تعالى- هذه الآيات وذكر حال المؤمنين بهذه الآية الجامعة، (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) في الأمر والنهي، (وَيَخْشَ اللَّهَ) فيما مضى من ذنوبه، (وَيَتَّقْهِ) فيما يأتي من أوامره ونواهيه، (فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)، فهذا حال المؤمنين؛ طاعة لله ورسوله، خشية مما مضى من الذنوب والآثام، فالمؤمن يرى ذنوبه كالجبل يكاد أن يقع عليه، مشفق من الذنوب، وأما المنافق فيرى ذنوبه كذباب أتى على أنفه فقال به هكذا، لكن المؤمنين من صفاتهم أن في قلوبهم وجلا وخوفا من الله تعالى ودائما ينظرون إلى ذنوبهم.
(فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) يعني الناجون، الفوز أصل معناه في لغة العرب النجاة، حتى سموا الصحراء مفازة لأن من اجتازها نجا من الهلاك، أو تفاؤلا بالنجاة، لأن العرب كانوا أحيانا يسمون الشيء بعكس اسمه من باب التفاؤل، في حديث الرجل اللديغ الجارية قالت للصحابة "إنَّ سَيِّدَ الحَيِّ سَلِيمٌ، وإنَّ نَفَرَنا غَيْبٌ، فَهلْ مِنكُم راقٍ؟" فكانوا يسمون اللديغ سليما من باب أنه إن شاء الله سيسلم منها، فالفوز هو النجاة.
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ ۖ قُل لَّا تُقْسِمُوا ۖ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) كما مر عنهم يجيدون الكلام ولا يتورعون عن الحلف، كلما قابلوا النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين أقسموا، (جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) يعني يكثرون من هذا، (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) يأتون النبي عليه الصلاة والسلام ويقولون له وقت ما تأمرنا بالخروج من أبنائنا وأموالنا سنكون أول المطيعين، أو (لَيَخْرُجُنَّ) يعني للجهاد؛ في وقت الدعة والراحة ولا جهاد قائم يقولون وقت فرض الجهاد سنكون في أول الصفوف، ويحلفون على ذلك، (قُل لَّا تُقْسِمُوا ۖ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ) الطاعة معروفة؛ فأطع الله كما يطيع المؤمنون الله تعالى، وافعل كما يفعل المؤمنون، ولا تكثروا من الكلام والحلف دون عمل.
(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) تهديد لهم؛ أن الله عليم بالخفايا، فالخبير هو العليم بخفايا الأمور؛ العليم هو العليم بكل شيء لكن الخبير هو العليم بما يخفى.
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) هذا هو المطلوب (فَإِن تَوَلَّوْا) عن طاعة الله وطاعة رسوله (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ) النبي عليه الصلاة والسلام ليس عليه إلا حِمل البلاغ وأنتم عليكم حِمل الطاعة، فلن يُلامَ رسول بين يدي الله تعالى لماذا لم يستجب فلان؛ لماذا لم يهتدِ فلان، سيسأل النبي هل بلغت؟ فيقول يا رب بلغت، فقد أدى ما حمل، النبي عليه الصلاة والسلام في حديث الرؤية قالَ: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النبيَّ ومعهُ الرُّهَيْطُ، والنبيَّ ومعهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ، والنبيَّ ليسَ معهُ أحَدٌ" تخيل أنبياء! يعني دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والسمت الحسن وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ وإخلاص الدين لله ويأتي يوم القيامة ما استجاب له إلا نفر قليل وبعض الأنبياء يأتي وليس معه أحد، فلن يُسأل من استجاب له من أمته ولكن يُسأل هل بلغت؟ وكذلك نحن كورثة النبي عليه الصلاة والسلام في البلاغ سنسأل هل أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر؟ هل بلغت رسالة الله تعالى؟ ولا يضرك عدم استجابتهم، بلِّغ؛ عليك ما حملت وعليهم ما حملوا، (فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ) من البلاغ (وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ) من الاستجابة.
(وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) من يهتدي يهتدي لنفسه، والله تعالى لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين، يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. فالله تعالى لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية لكن أنتم المنتفعون؛ إن تطيعوه عليه الصلاة والسلام تهتدوا والنفع سيأتي عليكم، ستصبحون على نور، على هدى، على بينة من الأمر، وإن لم تطيعوه ستصبحون في ظلمات بعضها فوق بعض.
(وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) هذا تصريح بما أُجمل، بعدما قال له (عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ) يعني البلاغ المبين، فهذا التصريح كي يرفع من عليه أي حرج، ليس عليك إلا البلاغ المبين؛ تبين للناس أحكام الله تعالى، فهذا هو المطلوب، وقوله تعالى (الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) يعني الواضح البين، لذلك الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر من الدعاة إلى الله تبارك وتعالى ينبغي أن يبلغوا للناس بلاغا يبين للسامعين، فليس الشأن ماذا قلت لهم؛ ولكن الشأن ماذا فهموا منك، فكن حريصا أن تبلغ الناس بأسلوب يفهمونه. في بعض إخوانا للأسف -ولا نحسب منهم إلا الإخلاص- يجلس مع الكتاب يحضر خطبة ويجمع أقوال الأئمة والمفسرين، ثم بنفس الطريقة التي قرأ وجمع بها من الكتب يخرج على الناس ويخطب فيهم، وأكثر الناس لا يفهمون هذا الأسلوب، ولكن لخص ما فهمته وبلغه للناس بأسلوب يطيقونه. قَالَ عَلِيٌّ: حَدِّثُوا النَّاسَ، بما يَعْرِفُونَ أتُحِبُّونَ أنْ يُكَذَّبَ، اللَّهُ ورَسولُهُ، فالبلاغ المبين يعني البين الواضح للسامعين، ولما تتأمل دعوة النبي عليه الصلاة والسلام تجد أن المشركين الذين كفروا به فهموا دعوته، عن عبد الله بن عباس قال: أَخْبَرَنِي أبو سُفْيَانَ، أنَّ هِرَقْلَ قَالَ له: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ: أنَّه أمَرَكُمْ بالصَّلَاةِ، والصِّدْقِ، والعَفَافِ، والوَفَاءِ بالعَهْدِ، وأَدَاءِ الأمَانَةِ، قَالَ: وهذِه صِفَةُ نَبِيٍّ. وكان أبو سفيان وقتها على الشرك، معنى ذلك أنه وصله البلاغ مبينا.
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
هذا وعد من الله تعالى للمؤمنين الذين يطيعون الله تعالى ورسوله، فبعد أن بين ربنا أحكامه التي أنزلها وفرضها في السورة، وبعد أن صنف الناس إلى ثلاثة أصناف؛ مؤمنين وكافرين ومنافقين، طمأن قلوب المؤمنين (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)، بل أكثر من ذلك؛ في الدنيا التمكين والاستخلاف والأمن في البلاد، كل ذلك يحل على المؤمنين بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فهذه شروط الوعد حتى يتحقق؛ الإيمان بالله تعالى ورسوله وعمل صالح؛ إيمان صحيح وعمل صالح، فمن حققها نال الوعد، وهو (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) هذا أول شيء؛ يستخلفهم أي يجعلهم خلفاء الأرض، وخلفاء الأرض لها معنيان؛ الأول: أنهم يخلفون قوما آخرين (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا)، والثاني: أنهم يحكمون بين الناس (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ)، والاستخلاف هنا في سورة النور يصلح للمعنيين؛ أن الله يستخلفهم بدلا من قوم ظالمين ويجعلهم حكاما بين الناس يحكمون بينهم بحكم الله تعالى،
ولك أن تقول هو هنا بالمعنى الأول لأن المعنى الثانى تضمنه قوله تعالى (وليمكنن لهم دينهم)
(كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) لأن هذه الآية نزلت وأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام مستضعفين، ذكر الطبري بسنده عن أبي العالية في قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ... الآية، قال: فمكث النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين خائفا يدعو إلى الله سرّا وعلانية، قال: ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة. قال: فمكث بها هو وأصحابه خائفون، يصبحون في السلاح، ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع عنا السلاح، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " لا تَغْبُرُونَ إلا يَسيرًا حتى يجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الملإ العَظيمِ مُحْتَبِيًا فِيه، لَيْسَ فِيهِ حَدِيدَةٌ". فأنزل الله هذه الآية (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) ... إلى قوله: (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ) " قال: يقول: من كفر بهذه النعمة (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وليس يعني الكفر بالله. قال: فأظهره الله على جزيرة العرب فآمنوا، ثم تجبروا، فغيرَ الله ما بهم، وكفروا بهذه النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفعه عنهم. انتهى كلامه رحمه الله، فالآية نزلت وقت خوف؛ وقت شدة في المسلمين والله يعدهم وعدا أنه سيستخلفهم في الأرض.
(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ) أضاف الدين لهم فقال (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ) ولم يقل دينه، بل قال دِينَهُمُ، وهذا ثناء على المسلمين أنهم تحملوا أمانة هذا الدين ومسؤولية هذا الدين، فيمكِّن الله لهم هذا الدين الذي ارتضاه لهم، حتى آية المائدة وردت (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ولم يقل ديني. فهذا ثناء من الله تعالى عليكم أنكم تستحقون أن ينسب هذا الدين لكم، كنتم أهله وكنتم أهل التقوى وأهل المغفرة وأهل الجهاد في سبيل الله فاستحقوا هذا.
(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ) فهذا الإسلام ارتضاه الله تعالى للعباد.
(وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) قدَّم الله تمكين الدين على تبديل الخوف بالأمن لأن هذا هو الأساس؛ (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) فالمسلم لا يريد التمكين في الأرض ليستريح ويترك الجهاد ويجمع أموال الخراج؛ ولكن همَّ المسلم أن يقيم دين الله تعالى في الأرض.
(يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) هذه الجملة في موقع الحال، والحال يأتي بمعنى الشرط، يعني حالهم في هذا الوعد أنهم يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، يعني يخلصون العبادة لي ويتبرؤون من الشرك كله؛ بجميع صوره؛ من دعاء غير الله تعالى؛ من تعلق القلوب رغبا ورهبا بغير الله؛ من تعظيم قوة الكافرين والمشركين في جانب التوكل على الله والاستعانة به؛ من صرف العبادات لغير الله كالذبح والنذر والطواف بالأضرحة؛ من تفضيل شريعةٍ غير شريعة الله تعالى على شريعته؛ وأحكامٍ على أحكامه، يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا هذه صفة هؤلاء الذين يستحقون التمكين؛ إيمان وعمل صالح وعبادة خالصة لله لا يشركون بربهم شيئا، لا يأتيهم الشرك من اليمين ولا من الشمال، لا تفتنهم الحضارة الغربية مثلا ولا العلمانية ولا الديمقراطية ولا الليبرالية ولا كل فكرة حادثة مخالفة للإسلام، وإنما يعتزون بدين الله تبارك وتعالى وشريعته التي أنزلها على رسوله؛ يعتزون بها لأنهم يعلمون أن حكم الله حق، مهما ابتدع الغرب من أفكار وسموها بأسماء مزخرفة يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، كقولهم حرية المرأة وحقوق الإنسان فنحن ننحي تلك الأحكام كلها ونقول حرية المرأة في الإسلام تكفي والحقوق التي شرعها الله تعالى للأسرى في الإسلام كافية، ونقول في كل حكم من أحكام الله تعالى الله نزل أحسن الكتاب وحكم أحسن الأحكام ولم يظلم الناس شيئا.
(وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) هنا أبو العالية -كما مر- ومقاتل ابن حيان وأقرهما ابن جرير وجماعة من المفسرين أنه من كفر النعمة، لما أنعم ربنا عليهم بالدين والتمكين في الأرض والاستخلاف لأنهم تمسكوا بأحكام الله تعالى كما استخلف الذين من قبلهم من الأمم الأخرى كبني إسرائيل لما تمسكوا بالكتاب واتبعوا الأنبياء كانوا في تمكين؛ كأصحاب موسى الذين أورثهم الله تعالى مشارق الأرض ومغاربها، وكداود وسليمان وما كان لهما من الملك، فالمسلمين كذلك ربنا وعدهم وهم في حال الاستضعاف أنه يمكن لهم لكن لو كفروا هذه النعمة؛ نعمة الدين، وتحكيم حكم الله تعالى بين العباد، وإخلاص العبادة لله، ونبذ الشرك، والإيمان والعمل الصالح، من كفر تلك النعمة (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، وكلمة الفاسقون هاهنا لها موقع رشيق، لأن أصل الفسق في لغة العرب الخروج من مخرج ضيق، يقولون فسقت الرطبة يعني خرجت من مخرج ضيق، فسقت الفأرة يعني خرجت من جحرها، فهنا هم بعد السعة والتمكين في الأرض من يكفر تلك النعمة يخرج من هذه السعة ويعانى فى هذا الخروج إلى فضاء واسع لا حد له ولا نور فيه وهو فضاء الكفر.
في حديث مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام يؤيد هذا الوعد، حديث عدي بن حاتم (كان نصرانيا وتأخر إسلامه رضي الله عنه) يقول:
بيْنَا أنَا عِنْدَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إذْ أتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إلَيْهِ الفَاقَةَ (يعني الفقر والحاجة)، ثُمَّ أتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ، (فكأن النبي عليه الصلاة والسلام خاف أن يُفتن عدي فأراد أن يطمئن قلبه) فَقَالَ: يا عَدِيُّ، هلْ رَأَيْتَ الحِيرَةَ (في العراق)؟ قُلتُ: لَمْ أرَهَا، وقدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا، قَالَ: فإنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ (المرأة التي ظعنت على بعيرها) تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بالكَعْبَةِ، لا تَخَافُ أحَدًا إلَّا اللَّهَ (لانتشار الأمن) -قُلتُ فِيما بَيْنِي وبيْنَ نَفْسِي: فأيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قدْ سَعَّرُوا البِلَادَ (قطعوا الطرق وأفسدوا في البلاد)؟!- ولَئِنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى، قُلتُ: كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ؟ قَالَ: كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ، ولَئِنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِن ذَهَبٍ أوْ فِضَّةٍ، يَطْلُبُ مَن يَقْبَلُهُ منه، فلا يَجِدُ أحَدًا يَقْبَلُهُ منه، ولَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أحَدُكُمْ يَومَ يَلْقَاهُ، وليسَ بيْنَهُ وبيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ له، فَلَيَقُولَنَّ له: ألَمْ أبْعَثْ إلَيْكَ رَسولًا فيُبَلِّغَكَ؟ فيَقولُ: بَلَى، فيَقولُ: ألَمْ أُعْطِكَ مَالًا وأُفْضِلْ عَلَيْكَ؟ فيَقولُ: بَلَى، فَيَنْظُرُ عن يَمِينِهِ فلا يَرَى إلَّا جَهَنَّمَ، ويَنْظُرُ عن يَسَارِهِ فلا يَرَى إلَّا جَهَنَّمَ. قَالَ عَدِيٌّ: سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقَّةِ تَمْرَةٍ، فمَن لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ. قَالَ عَدِيٌّ: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بالكَعْبَةِ، لا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ، وكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ، ولَئِنْ طَالَتْ بكُمْ حَيَاةٌ، لَتَرَوُنَّ ما قَالَ النَّبيُّ أبو القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ (الوعد الثالث)...
الراوي : عدي بن حاتم الطائي | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 3595 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح] - التخريج : أخرجه البخاري (3595)، ومسلم (1016)
ابن كثير له في تفسيره كلام دائما أنقله عند تفسير هذه الآية، قال رحمه الله:
"هذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي : أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليبدلن بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك. وله الحمد والمنة، فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين، وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها. وأخذ الجزية من مجوس هجَر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية - وهو المقوقس - وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة، الذي تملك بعد أصحمة، رحمه الله وأكرمه.
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق، فلمَّ شعث ما وهِيَ عند موته، عليه الصلاة والسلام وأطَّد جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد، رضي الله عنه، ففتحوا طرفا منها، وقتلوا خلقا من أهلها. وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة، رضي الله عنه، ومن معه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثا صحبة عمرو بن العاص، رضي الله عنه، إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها، وتوفاه الله عز وجل، واختار له ما عنده من الكرامة. ومنَّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن استخلف عمر الفاروق، فقام في الأمر بعده قياما تاما، لم يدر الفُلْكُ بعد الأنبياء [عليهم السلام] على مثله، في قوة سيرته وكمال عدله. وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان، وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصَّر قيصر، وانتزع يده عن بلاد الشام فانحاز إلى قسطنطينة، وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله، عليه من ربه أتمُّ سلام وأزكى صلاة.
ثم لما كانت خلافة عثمان -رضي الله عنه-، امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك: الأندلس، وقبرص، وبلاد القيروان، وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى، وباد ملكه بالكلية. وفتحت مدائن العراق، وخراسان، والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجُبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه. وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن; ولهذا ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها" فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فنسأل الله الإيمان به، وبرسوله، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا."
انتهى كلامه رحمه بتصرف يسير.
فوعد الله تعالى حق وأمره تبارك وتعالى صدق وقد كان ما وعد به هؤلاء الصالحين من التمكين في الأرض، ومن فتح مشارق الأرض ومغاربها بعد أن كانوا خائفين يخافون أن يتخطفهم الناس، لكن لما قاموا بشروط هذا الوعد كان وعد الله تعالى لهم، ولمَّا كفر من كفر من بعدهم تلك النعمة فإن اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ، فالأمر يسير، هناك وعدٌ؛ والواعد به هو الذي يملك أمر السماء والأرض، الذي هو على كل شيء قدير، الذي بيده ملكوت كل شيء، وتنفيذ هذا الوعد سهل على الله تعالى، وهو يسير أيضا؛ فالشروط التي وضعها الله تعالى على المؤمنين حتى يمكنهم في الأرض من الإيمان والعمل الصالح وإخلاص الدين له والبراءة من الشرك وأهله يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه.
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
هذا أيضا من شروط الوعد، إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك رحمة بالعباد.
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۖ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
تخيل دائما أن هذا الوعد نزل وهناك امبراطورية اسمها فارس وامبراطورية أخرى اسمها الروم، والعرب وقتها لا قيمة لهم عسكريا، القيمة العسكرية للعرب قبل بعثة النبي عليه الصلاه والسلام إلى أن مُكِّن عليه الصلاة والسلام لم يكن يأبه بها أحد، حتى إن كسرى لما سمع عن النبي عليه الصلاة والسلام أرسل له رجلين من رجاله، يظن أمره عليه الصلاة والسلام كأمر سائر العرب، ولكن هذا نبي يُوحى إليه والله تعالى يعصمه من الناس وينصره على أعدائه.
(لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) فمهما مُكِّن الذين كفروا في الأرض فلن يعجزوا ربهم، فمن هذا الذي سيعجز الله تعالى مهما أوتي من قوة، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً.
(وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۖ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) دائما لما ترى قوة الكافرين وتمكنهم في الأرض وتقلبهم في البلاد تذكر مصيرهم عند الله، وأن الله يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ، يلقون في النار إلقاء، ليس مجرد دخول كريم، يلقون فيها حصب جهنم أي تُحصب بهم جهنم، وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۖ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
المَجْلِسُ العاشر من مجالس تفسير سورة النور
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد، فهذا هو المجلس العاشر والأخير إن شاء الله في تفسير آيات سورة النور يقول الله تبارك وتعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ۚ مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ۚ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ۚ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
هذه آية الاستئذان، وهذا الاستئذان غير الاستئذان الأول؛ مر معنا آيات الاستئذان الثلاثة في أول السورة قبل آيات غض البصر -(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27))- الاستئذان الآن داخل البيوت أمّا استئذان أول السورة كان لدخول البيوت، فهذا استئذان في البيوت؛ استئذان داخل البيوت، يراعي الله تبارك وتعالى أن أهل البيت البالغين لهم خصوصية.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ) الخطاب موجه للأولياء وليس لمن شرع في حقهم الاستئذان، لأنهم لم يبلغوا الحلم بعد، غير مكلفين، لا يصلحون للخطاب، فجاء الخطاب لأوليائهم أن يعلموهم تلك الآداب، وملك اليمين هذا من وظيفة وولاية سيده عليه أن يعلمه أحكام الله تعالى لا سيما إذا كانت هذه الأحكام بينه وبين سيده. (لِيَسْتَأْذِنكُمُ) داخل البيت، البيوت فيها مكان عام وأماكن خاصة، صالة البيت مثلا لا تخلوا من دخول وخروج ومرور جميع أهل البيت فليس فيها استئذان، لكن توجد غرف خاصة مثلا بالأبوين وغرف خاصة بالبنات وغرف خاصة بالبنين؛ وممكن يكون كل واحد له غرفة خاصة به فالاستئذان يكون في هذه الغرف.
(ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) ثلاث عورات، في ثلاث أوقات لابد أن يستأذنوا.
(مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ) الوقت الأول قبل الفجر، الأطفال لا يدخلون على والديهم إلا بعد الاستئذان، وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ لأن في هذا الوقت يتخفف الإنسان من ثيابه؛ وهو وقت القيلولة، وقد يكون مع أهله ونحو هذا، فهذا أيضا وقت استئذان، وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ لأنه بداية وقت النوم، وهذه الأوقات أوقات إسلامية؛ لكن لو اختل نظام وعادة أهل هذا البيت لعارض أنهم ينامون مثلا من الفجر للظهر فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما فيعلمونهم الاستئذان في هذا الوقت لأنه أصبح وقت النوم، لكن الله تعالى ذكر هذه الأوقات بالتخصيص ولم يربط الحكم بالعلة لينبهنا أن هذه الأوقات أساسية؛ وأن هذا الذي ينبغي أن يكون نظام حياة المسلمين، أن يستيقظوا الفجر ويناموا بعد العشاء وإذا أراد راحة خلال اليوم تكون قيلولة وقت الظهيرة ليستعيد النشاط ولو بغير استغراق في النوم، وهذا حال العقلاء في زماننا.
(ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ) في غير هذه الأوقات الثلاثة الأطفال ممن هم دون الحلم وملك اليمين يدخلون بغير استئذان، بعد العصر مثلا يدخلون بغير استئذان، لأنهم طَوَّافُونَ عَلَيْكُم والطواف كثير الحركة وكثير الدخول والخروج، في الخدمة وغير ذلك، ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم؛ ولهذا روى الإمام مالك وأحمد وأهل السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: "إنها ليست بنجس؛ إنها من الطوافين عليكم - أو - والطوافات".
(بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ) أراد الله أن يحفظ خصوصية الناس ويحفظ عوراتهم ويكون لهم ستر أن تنكشف تلك العورات حتى أمام أبنائهم.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي هذه الشرائع أنزلها تبارك وتعالى لأنه يعلم ما يصلح العباد، وهذه الشرائع صدرت عن حكمته تبارك وتعالى.
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
هنا الخطاب توجه للأطفال بعد بلوغ الحلم لأنهم أصبحوا مكلفين، فوجه الله الخطاب لهم.
(فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) هذا تطييب للخاطر، عندما تأمر ابنك مثلا بعدما بلغ الحلم بالاستئذان دائما في أي وقت طالما في الغرف الخاصة تطيب خاطره وتقول له تستأذن كما يستأذن من سبقك.
وردت عن السلف آثار كثيرة في موضوع الاستئذان؛ ابن عمر كان إذا بلغ بعض بنيه الحلم لا يدخل عليه إلا باستئذان، يعني ليس هو فقط من يستأذن عليك؛ أنت أيضا تستأذن عليه وعلى ابنتك في غرفهم الخاصة.
وموسى بن طلحة بن عبيد الله دخل مع أبيه البيت حتى أراد طلحة أن يدخل غرفته فدفع موسى في صدره وقال تدخل على أمك بغير استئذان؟!
عطاء بن رباح سأل عبد الله بن عباس عن بنات أخيه، أيتام في حجره، وقال له أنا مثل أبيهم أفأستأذن عليهن؟ قال ابن عباس استأذن عليهن، وعطاء يراجعه وابن عباس يقول له استأذن عليهن، حتى قال له أتحب ان تراها عريانة أو نحو هذا، فلما استأذن عليهن بكين فقال وما ذنبي أمرت بهذا.
فالمقصود أن هذا من الآداب الحسنة؛ آداب الإسلام العظيمة، فكما هناك استئذان لدخول البيوت؛ هناك أيضا استئذان بين أهل البيت وأنفسهم. والاستئذان يكون أيضا بين نفس الجنس؛ يعني الأم تستأذن على ابنتها، والأب يستأذن على ابنه كما يستأذن على ابنته.
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ۖ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
بدأت سورة النور بحد الزاني والسياجات التي حول تلك الفاحشة؛ من حد القاذف، وأدب الاستئذان، وأدب غض البصر، ثم كعادة البلغاء استطرد ربنا تبارك وتعالى في الكلام فبيّن أن هذا هدى الله، وأنه نور السماوات والأرض، وأن هذه الأحكام أحكامٌ نورانية، وبيّن حججه وبراهينه على عباده، وهذا الاستطراد اقتضاه المقام، وبعد كل هذا أرجعك مرة أخرى للأحكام التي بدأت بها السورة، فذكر أحكام الاستئذان، وأحكام الحجاب مرة أخرى، وهذا من عادة البليغ في خطبته، فمن البلاغة إن كنتَ خطيبا أن تبدأ بموضوع الخطبة ثم تعظ الناس في وسط الخطبة ببعض أحكام وعلل الخطبة ثم ترجع مرة أخرى لموضوع الخطبة حتى تصل نهاية الخطبة ببدايتها، وهذا يسميه البلغاء رد العجز على الصدر، أن تنتهي بما بدأت به الكلام.
(وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ) الْقَوَاعِدُ جمع قاعد وهي المرأة التي يئست من الزواج، فلا تشتهي الرجال ولا يشتهيها الرجال، فهي ليست كالشابات في الحجاب، لكن الله خفف عنهن أمر الحجاب، فقال: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) يعني لا تشتهي ولا تُشتهى ولا حتى تفكر في النكاح.
(فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ) السلف فسروا هذا بآية سورة الأحزاب؛ بالجلباب، قلنا أن الجلباب في لغة القرآن ولغة العرب ليس معناه الجلباب في لغتنا اليوم، وأيضا الخمار في لغة القرآن ليس معناه الخمار في عرفنا اليوم، حتى ننتبه للمصطلحات ودلالتها، الخمار في لغة القرآن يعني غطاء الرأس -الطرحة أو البندانة-، أما الجلباب لباس يُوضع فوق فوق الخمار، فالجلباب يشبه الخمار في عرفنا اليوم، ربنا رخص للنساء القواعد -الكبيرات في السن- اللاتي ليست عرضة للنكاح أن تضع جلبابها، أن تضع ردائها، وتظهر بلباسها الواجب لصلاتها في بيتها، والمرأة في غير حضرة الرجال تصلي في درع -قميص يغطي حتى القدمين- وخمار وجوبا، ورداء أو جلباب أو يسمى إزار أو يسمى مقنعة استحبابا، أما في حضرة الرجال تستتر زيادة بأن تلبس الجلباب فوق الخمار، فالله عز وجل رخص للقواعد من النساء أن تظهر أمام الأجانب من الرجال بلباس الصلاة الواجب في حق المرأة وليس بلباس خروج العفيفات الشابات، ففي هذه الحالة لن تظهر أيضا أكثر من الوجه والكفين.
(غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) فلا تتعلل بكونها من القواعد أن تتبرج وتظهر ما يجب إخفاؤه.
إذا كان الله تعالى ينهى القواعد من النساء عن التبرج ويقول فيهن (غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) ثم يقول (وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ) يعني لو التزمت بلباس الشابات أحسن لها، وليس تشددا، عاصم الأحول روى أنه كان يدخل على حفصة بنت سيرين -من التابعين- فكانت تنتقب بجلبابها، فيقولون لها (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ) أنها نزلت في الجلباب فكانت تقول لهم (وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ).
(وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) سميع لأقوال عباده، عليم بأحوالهم.
لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا ۚ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
هذه الآية في الأكل في بيوت هؤلاء بدون استئذان، إلا أن يُعلم نهيهم، وهذا هو قول الحسن وغيره، وهو القول المختار فى المسابقة لأن ذلك من المواساة الواجبة بين المسلمين، سُئِلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عنِ الثَّمرِ المعلَّقِ فقالَ مَن أصابَ منهُ من ذي حاجَةٍ بفيهِ غيرَ متَّخذٍ خُبنةً فلا شَيءَ عليهِ، يعني لو مر مسلم أصابه الجوع على بستان يأكل منه من غير استئذان مواسةً واجبةً له، حتى لو له حائط الراجح يأكل ويسد جوعه بغير استئذان، وإن كان ذلك من مروءة العرب قبل الإسلام فما بالك بأخلاق الإسلام.
بدأ الله (مِن بُيُوتِكُمْ) ولا أحد يستأذن في بيته، لكنها إشارة من الله أن ما بعدها له نفس الحكم، (أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ) لو كان أبوك متزوجا بأخرى ومستقل بها بمسكن خاص لها، (أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ) سواء في مسكن خاص بها أو تزوجت رجلا آخر ونحو هذا، (أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ) العمات والخالات غالبا البيت بيت زوجها لكن يُنسب البيت إليها لأن ربنا قال (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ) فهي أيضا تأذن في بيت زوجها بطعام أقاربها، هي تأكل بغير استئذان وأقاربها هؤلاء يأكلون بغير استئذان، ولها أن تتصدق الصدقة اليسيرة بغير استئذان من الطعام المبذول الجاهز للأكل.
(أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ) هو من يسموه القهرمان؛ أو مالك خزائن الطعام، ومفاتح جمع مَفتح ومفتاح جمعها مفاتيح، وهما في اللغة واحد، فمالك تلك المفاتح إذا جاع أكل مما استؤمن عليه،
(أَوْ صَدِيقِكُمْ) ربنا نزّل الصديق منزلة هؤلاء الأقارب لما بينه وبين صديقه من المودة، حتى قيل سموه صديقا لأنه صادق في المودة، وسئل بعض الحكماء أيهما أحب إليك أخوك أم صديقك فقال إنما أحب أخي إذا كان صديقي، إذا نزل منزلة الصديق، لأن بعض الأخوة لا تجد بينهم ألفة، لكن الأصدقاء لا تجمعهم إلا الألفة، حتى أهل النار لما نادوا قالوا (فَمَا لَنَا مِن شَـٰفِعِینَ وَلَا صَدِیقٍ حَمِیمࣲ) لا أب ولا أخ.
أول الآية (لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ) المراد رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في أمر الطعام، وهي عامة، في أمر الطعام كيف؟! يعني هذا الأعمى وهذا الأعرج وهذا المريض غالبا عندهم مشكلة لما يأكلون مع الناس؛ الأعمى مثلا ممكن تقع يده على لقمة سبق نظر رجل إليها؛ أو آخر مد يده عليها؛ وهو أخذها، أو ممكن يؤذي من بجواره، والأعرج يتوسع في المجلس ويتفسح غصبا عنه؛ قد يأخذ مكانين أو ثلاثة، والمريض قد يوجد أنفة بين الناس وبينه، فالله تعالى يقول للناس ارفعوا عن هؤلاء الحرج، وهم أيضا يعلمون من الله أنهم ليس عليهم حرج، فالأعمى يأكل ويتوسع في الأكل وما يصدر منه من أذى للمسلمين يتحملوه وجوبا، والأعرج يتفسح في المجلس ونتحمله وجوبا، والمريض -الأمراض غير المعدية لأن الشريعة وردت بعزل المريض لو كانت هناك عدوى من باب لا ضرر ولا ضرار- لو هناك أنفة نتحمله أيضا، من حسن الخلق أن نتحمل هؤلاء، إذا كان الله ابتلاهم بهذا البلاء طول حياتهم فالله يأمرنا أن نتحملهم ونصبر عليهم وقت مخالطتنا إياهم، اعتبر نفسك أنك صاحب هذا البلاء في هذا الوقت.
ورفع الحرج على العموم أيضا فى كل حرج يقع عليهم بسبب عجزهم.
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) يعني أهل البيت موجودون ونأكل كلنا مع بعض أو أنهم خرجوا وأنت تأكل وحدك، أو بعض الناس مثلا يشتركون في الطعام كأن يكونون في قافلة أو سفر أو في رحلة حج أو عمرة ويشتركون في طعام واحد وأراد بعضهم أو أحدهم أن يسبقهم في الأكل فلا حرج. وكان من العرب من لا يأكل أبدا وحده فإذا لم يجد أحدا يأكل معه انتظر أو طلب أحدا وفى هذا مشقة لا تخفى.
(فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) يذكرنا الله بآداب استئذان دخول هذه البيوت، إذا كان الأكل فيها مباح بغير إذن فإذن دخولها لا يزال قائما، (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا)، هذا بخلاف قول الناس: إذا استوى الحُب سقط الأدب… لا؛ في الإسلام مهما عظم الحب فالأدب موجود، والحدود موجودة، والحرمات موجودة، (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) هي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لو موجود أحد في البيت تسلم عليه، ولو دخلت بيتا ليس فيه أحد فالسلف ورد عنهم كثيرا أن تقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وهذه التحية تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً؛ يعني يضع الله تعالى بها زيادة الخير والبركات، طَيِّبَةً؛ الطِّيب في لغة العرب هو البراء من العيوب؛ من الآفات، فكلمة السلام عليكم دعاء بالسلامة من الآفات وإيذان بالسلام فلا يأتيك مني إلا سلام.
(كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فهذا البيان من الله تعالى في هذه الآية وفي كل الآيات التي مرت في سورة النور وفي آيات القرآن عموما لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، يعني تعقلون عن الله تعالى ما أراد بكم من الخير، وما أراد بكم من الستر ومن العفاف ومن الكمال ومن الشريعة التي ترفع عنكم الحرج والنصب، صحيح فيها تكاليف لكن تؤول في نهايتها إلى الرحمة، فأنت تتحمل مشاق بالأمر والنهي بامتثال أمر الله تعالى، لكن يؤول هذا في آخر الأمر إلى الرحمة في الدنيا قبل الآخرة، فتعيش في راحة وسلامة بينك وبين أبنائك وبين زوجتك وبين إخوانك لو طبقت أحكام الإسلام.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (62)
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَىٰ أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ) يختم الله -تعالى- الآيات بأعظم الاستئذان وهو استئذان النبي -عليه الصلاة والسلام- ومن قام مقامه في أمر الدين أو في أمر الولاية، فهذا استئذان آخر، وهو إذا كانوا معه على أمر جامع، يعني أمر يجمع الناس كالتفقه وتعليم الناس دينهم واجتماعهم على كتاب الله تعالى، السلف ضربوا مثلا لذلك بخطبة الجمعة وبالقتال والمشورة للقتال، والخروج للقتال، إذا كانوا مع النبي عليه الصلاة والسلام أو من قام مقامه عليه الصلاة والسلام بعده على أمر جامع لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّىٰ يَسْتَأْذِنُوهُ، فإذا كنت في درس أو خطبة جمعة وعرض لك عارض فلا تخرج دون أن تستأذن، وصفة الاستئذان أن تضع يدك اليسرى على أنفك وتستئذن بيدك اليمنى، ويكفي المعلم أو الإمام أو القائد أن يشير إليك، ولا يلزم أن يقول لك أذنت لك، حتى لا تقطع الحديث، لو أشار إليك فهذا إذنه لك، فهؤلاء المؤمنون التفوا حول النبي عليه الصلاة والسلام لنصرة الدين ويرون الالتفاف على كتاب الله تعالى والاجتماع حول كتاب الله من الأمور الجامعة، فخطبة الجمعة أو درس تعليم التفسير أو الفقه أمر جامع.
(إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) عرضت لهم مسألة أو حاجة في البيت أو غير ذلك واضطر أن يخرج -حتى لو في صلاة الجمعة- ولا يهون عليه أن يترك النبي عليه الصلاة والسلام في مقام التعليم أو يترك القائد يعد للجهاد أو نحو هذا إلا أن يستأذن لأنه يرى أن الأمر عظيم، يرى أن الأمر جلل، (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ) ممكن تستأذن الإمام ولا يأذن لك، ينتظر رأيك مثلا، والأصل أن الإمام يأذن ويراعي الحرج لكن قد لا يأذن للمصلحة.
(وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) كأنهم راعوا المصلحة الشخصية على المصلحة العامة؛ كأن هناك نوع من إيثار الدنيا على الآخرة، فربنا رفع عنهم الحرج أن قال للنبي عليه الصلاة والسلام ومن بعده ومن قام مقامه فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ.
لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
دعاء النبي عليه الصلاة والسلام أو من قام مقامه لتعليم الشريعة أو لمراجعة أمر فيه مصلحة لعموم المسلمين ليست كدعوة أي أحد من الناس، ودعاء أي مناداة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)، ومعنى آخر؛ دعاء أي مناداة؛ لا تسموه إذا دعوتموه أي ناديتموه فلا تقولوا: يا محمد، ولا تقولوا: يا بن عبد الله، ولكن شرفوه فقولوا: يا نبي الله، يا رسول الله، ومعنى ثالث لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإن دعاءه مستجاب، فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا.
والآية تحتمل جميع المعاني لكن نركز على المعنى الأول؛ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم إن دعاكم لمجلس أو لأمر ما كدعاء غيره من الناس، وكذلك من قام مقامه ممن يعلمون الناس القرآن والعلم الشرعي؛ ينبغي أن يوقروا وأن يكونوا قادة الناس لأن هؤلاء هم المصلحون، وهم ورثة الأنبياء ولهم مكانة عظيمة في الإسلام.
(قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا) هذا أيضا من الترابط في السورة، أن السورة ذكرت صنف المنافقين (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) فهذا الصنف لا يستأذن، يحضرون صلاة الجمعة مثلا حتى يراهم الناس ثم يرجعون (يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا)،
لاذ يلوذُ لياذا، ولاوذ يلاوذ ملاوذةً، والملاوذة فيها مفاعلة بين اثنين، يتسترون ببعض في تسللهم، يلوذون بعضهم ببعض، لأن لِوَاذًا من الملاوذة فيها مفاعلة.
(قَدْ يَعْلَمُ) "قد" قد تدخل على الفعل المضارع للتأكيد، مثل "إن" مع الجملة الإسمية، "قد" في الجملة الفعلية -سواء فعل ماضي أو فعل مضارع- تدخل للتحقيق والتأكيد، (قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ)، وقال عُبيد بن الأبرص:
قَد أَترُكُ القِرنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ ... كأنّ أثوابَه مُجَّت بفِرصادِ
القِرن: المماثل في الشجاعة. مصفرًا أنامله: مقتولًا قد نزف دمه، فاصفرت أنامله. سجّت: طيّنت، يقال: سجَّ الحائط: طيَّنه، والمراد هنا: صُبغت، ويروى: (مجّت). الفِرصاد: ماء التوت الأحمر، يريد أن الدم الذي على ثيابه بمنزلة ماء التوت، وتقديره على هذا القول: كأن أثوابه مجت بماء الفرصاد.
والمعنى: يريد: إني أترك القرن مقتولًا، قد اصفرت أنامله لما خرجت منه الروح.
فهو أدخل "قد" على الفعل المضارع -قد أترك القرن- ولم يرد الشك ولا التقليل، وإنما أراد التحقيق.
(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) يحذر ربنا تبارك وتعالى الناس والمؤمنين أن يخالفوا أمر النبي عليه الصلاة والسلام.
(يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) غير (يخالفون أمره) زيادة عن تضمن الفعل معنى فعلٍ آخر وهو الإعراض، يعني لا تعرض ولكن أقبل، لأن النبي عليه الصلاة والسلام جاء بالهدى؛ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا، جاء بالنور من عند الله تعالى، فلا تخالف هديه، ولا تخالف شأنه، ولا تخالف أمره، فإذا عرفت هدي النبي عليه الصلاة والسلام فاحذر أن تخالف عنه، بل الزم هديه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه جاء بالهدى وجاء بالنور المبين.
فلما كانت السورة -سورة النور- فيها أحكام كُلِّف النبي عليه الصلاة والسلام أن يبلغها للناس؛ فيحذر الله المؤمنين عن مخالفة أمره عليه الصلاة والسلام، ومخالفة هديه، أو أن يحيدوا عن الهدى الذي جاء به.
حَكَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ، قَالَ: "سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ؟ قَالَ: مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ. فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ، قَالَ: فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْقَبْرِ، قَالَ: لَا تَفْعَلْ; فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ الْفِتْنَةَ، فَقَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ هَذِهِ؟! إِنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا، قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّكَ سَبَقْتَ إِلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
عَنْ أَمْرِهِ: يعني عن شأنه وهديه الذي كان عليه، والفتنة: اضطراب في الأمر؛ في الدنيا تصيبهم فتنة فلا يجنون من مخالفتهم إلا فساد دنياهم، وفي الآخرة ينتظرهم العذاب الأليم.
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
(أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فهذا الملكوت ملكوته، وهذا الملك ملكه، فيحكم فيه بما يشاء، فهي (سُورَةٌ أَنـزلْنَاهَا وَفَرَّضْنَاهَا) كثرة ما فيها من الفرائض لأن ملك هذا الملك هو الذي يحكم فيه، والله -تعالى- الملك الحق، الملكوت كله بيده، ملكٌ خلق هذا الملكوت، وملكٌ رزق هذا الملكوت، وتولاه، فليس كملوك الدنيا، فلا ينتظر من العباد رزقا أو أن يطعموه بل هو الذى يرزقهم، عكس ملوك الدنيا؛ لا خلقوا ولا رزقوا ولا هم أغنياء عن شعوبهم، بل فقراء إليهم.
(قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ) فهو رقيب عليكم، كل الأحكام التي في السورة الله رقيب علينا فيها، يعلم ما نحن عليه، و"قد" هنا للتكثير والتحقيق، فمهما كثرت شؤونكم؛ كنتم في طاعة يعلمها وكنتم في معصية يعلمها، (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ).
(وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) ويوم ترجع الخلائق إلى الله -وهو يوم القيامة- (فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا) ليحاسبهم، فهذا النبأ لازمه الحساب، (مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا)، (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ).
(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهو عليم بأعمال العباد، وعليم بما يصلح هؤلاء العباد، فشريعته التي أنزلها والقرآن الذي أنزله على رسوله كان عن علمه، (لَّٰكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ ۖ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ).
نسأل الله تعالى أن يجعل ذلك في ميزان حسناتنا، وأن يغفر لنا، وأن يرحمنا، وأن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، وأن يتقبل منا صالح الأعمال، وألا يردنا على أعقابنا خاسرين، نسأل الله تعالى أن يثبتنا، وأن يزيدنا من هذا العلم، وأن يفقهنا في الدين، وأن يعلمنا التأويل، وأن يجعلنا من المقبلين على كتاب الله تعالى؛ فهما وحفظا ودراسة وعملا، ونستغفر الله العظيم، وصل اللهم على محمد، والحمد لله رب العالمين.