المَجْلِسُ الرابع من مجالس تفسير سورة النور

من قوله تعالى:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا ..27. إلى قوله تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ... 30

قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ (30)

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا اله الا الله ولي الصالحين وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم أما بعد فهذه هي الحلقة الرابعة من تفسير سورة النور وقد وقفنا عند آيات الاستئذان:

 يقول الله تعالى 

 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)

 فلما كانت سورة النور افتتحت بالنهي عن فاحشة الزنا فإنّ الله تعالى يسد الأبواب إلى تلك الفاحشة، 

من رحمة الله تعالى أنه إذا حرّم شيئا حرّم الأسباب المفضية إليه، كي لا يكون للشيطان سبيل أن يجرك إلى تلك المعصية، 

فنزلت آداب الإستئذان؛ 

وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام "إنَّما جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِن أجْلِ البَصَرِ"، لأن البصر رائدُ القلبِ إلى الشهوة وهو بداية الوقوع في الفاحشة.

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) خرج بقوله تعالى غير بيوتكم بيوتكم يعني ادخلوا بيوتكم بغير استئذان، لكن غير بيوتكم (حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا) ليس فقط حتى تستأذنوا، 

 لأن الاستئناس استئذان وزيادة، استئذان مع إيناس؛ مع إزالة الوحشة، فحتى تستأنسوا يعني حتى تستأذنوا استئذانا حسنا فيه إيناس وليس فيه وحشة،

 ربنا تبارك وتعالى قال (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) من الأُنس،

 وسيدنا عمر لما دخل على النبي عليه الصلاة والسلام وهو غضبان فقال "قُلتُ وأَنَا قَائِمٌ: أسْتَأْنِسُ ؛

 يا رَسولَ اللَّهِ، لو رَأَيْتَنِي وكُنَّا -مَعْشَرَ قُرَيْشٍ- نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المدينة فإذا هم قَوْمٍ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ،

 فَتَبَسَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ،

 ثُمَّ قُلتُ: لو رَأَيْتَنِي ودَخَلْتُ علَى حَفْصَةَ، فَقُلتُ: لا يَغُرَّنَّكِ أنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هي أوْضَأَ مِنْكِ، وأَحَبَّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -يُرِيدُ عَائِشَةَ- فَتَبَسَّمَ تبسمة أُخْرَى،

 فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ تَبَسَّمَ"،

 لما استأنس والنبي عليه الصلاة والسلام كان مغضبا وحصل الإيناس والرسول تبسم مرتين سيدنا عمر تبسّط في الكلام وجلس. 

(وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا) من آداب الاستئذان أن تسلم، جاء الحديث "أنَّ رجلًا من بني عامرٍ استأذنَ علَى النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وَهوَ في بيتٍ فقالَ أألجُ فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لخادمِه اخرج إلى هذا فعلِّمهُ الاستئذانَ فقلَ لَه قل السَّلامُ عليكم أأدخلُ فسمعَه فقالَ السَّلامُ عليكم أأدخلُ فأذنَ لَه النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ – فدخلَ" ففي الحديث السلام قبل الاستئذان، لكن هذا متخيل في الخيام مثلا أو البيوت بغير أبواب كمخيمات اللاجئين مثلا مخيمات منى فإن الخيام ليس لها تلك الأبواب الموصدة، فأنت في هذه الحالة تقول كما جاء هذا الحديث؛ السلام عليكم أأدخل. أما إذا كانت الأبواب موصدة فالإنسان مضطر أن يبدأ بالاستئذان قبل السلام فإن رد عليه فإنه يسلم. لذلك الآية جاءت بواو العطف (حتى تستأنسوا وتسلموا) فجاء تأخير السلام وكأن الله تعالى بعلمه المحيط يشير إلى أن هذا سيؤول إليه الحال؛ لأن بيوت العرب لم تكن كلها أبواب موصدة بل بالعكس، حتى وردت آثار في الاستئذان أن بعض العرب كان يدخل البيت ويجلس ثم يسلم! فنزلت تلك الآداب، فلأن الله تعالى يعلم أن الأمر سيؤول إلى ما آل إليه من أبواب موصدة فبدأ بالاستئذان؛ وهو الأصل، كي لا يشكل عليك الحديث أن جاء فيه السلام قبل الاستئذان؛ فهذا في حالة أن الأبواب مفتوحة فتقول السلام عليكم أأدخل، أما إذا كانت الأبواب مؤصدة مغلقة فأنت تبدأ بالاستئذان كما سيأتي في حديث أبي موسى وكما هو صنيع الناس اليوم،

 ونحن نقول أن الاستئذان واجب وأن السلام مستحب.

(ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي في هذه الأحكام خير لكم؛ من غض الأبصار وعدم الاطلاع على العورات وعدم إفزاع أهل البيت بالدخول عليهم بغير إذنهم (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) يعني تتعظون بأحكام الله تعالى العظيمة الجليلة التي نزّلها في كتابه،

 ولو ذكرت معنى الذكرى التي ذكرناها في أول حلقة فإن هذا يؤيدك في هذا المعنى، أن تقول حكم الاستئذان وكأنك تعلم أن هذا الحكم من الفطرة التي فطر اللهُ الناسَ، في أول آية في قوله تعالى (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) قلنا أن الله تعالى سمى العلم بعد الجهل ذكرى لأن أحكامه تبارك وتعالى وافقت الفطرة السليمة فأنت لما تتعلم بعد جهل تظن أنك تذكرت بعد نسيان، كأنك تأنس لهذه الأحكام ولا تستوحشها؛ لأن الله تعالى هو الحق ولا يقول إلا الحق وقد فطر الناس على هذا الحق وديننا ليس فيه آصار ولا أغلال، رفع الله تعالى الحرج في دين الإسلام.

فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ ۖ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)

(فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا) ذهبت إلى مكان مثلا والأبواب كما قلنا في أماكن كالمخيمات وغيرها غير مغلقة فهل يحق لي أن أدخل لأن الاستئذان من أجل البصر ولا أحد في البيت فلن أطلع على عورات أحد؛ فأدخل؟، لا؛

 لأن العورة ليست فقط عورة الإنسان بل البيوت نفسها لها حرمة ولها عورة، فأهل البيت يستصلحون الأماكن قبل أن تدخل، لا يريدونك أن ترى البيت إلا على صورة معينة، لذلك إن لم تجدوا في البيوت أحدا فلا تدخلوها.

 (حَتَّىٰ يُؤْذَنَ لَكُمْ) حتى يجيء أهل هذه البيوت فيأذنوا لكم. 

(وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) هذا أدب من آداب القرآن العظيمة، أنك إذا أُمرت بالرجوع ترجع، والله يقول لك (هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ) هو أطهر وأحسن أن ترجع لأن صاحب البيت له حق في بيته وله خصوصية في هذا البيت.

 قال قتادة: قال بعض المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها: أن أستأذن على بعض إخواني، فيقول لي: "ارجع"، فأرجع وأنا مغتبط [لقوله]، (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم).

 والسنة النبوية جاءت بما هو أوسع؛ وهو ليس شرطا أن يُقال لك ارجع؛ فلو استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لك كأنه قيل لك ارجع، يعني سنة النبي عليه الصلاة والسلام رفعت الحرج عن صاحب البيت أن يقول لك ارجع.

 أبو سعيد الخدري يقول : كنا في مجلس أبي بن كعب ، فأتى أبو موسى مغضبا حتى وقف ، وقال : أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : الاستئذان ثلاث فإن أذن لك ، وإلا فارجع قال أُبي : وما ذاك ؟ قال : استأذنت على عمر أمس ثلاث مرات ، فلم يؤذن لي فرجعت ، ثم جئت عليه فأخبرته أني جئت أمس فسلمت ثلاثا ، ثم انصرفت ، قال : قد سمعناك ، ونحن حينئذ على شغل ، فلو استأذنت حتى يؤذن لك، قال: استأذنت كما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : والله لأوجعن ظهرك وبطنك ، أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا فقال أبي : والله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا ، الذي يجيبك ، قم يا أبا سعيد ، فقمت حتى أتيت عمر فقلت : قد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا 

فقال عمر خفي علي هذا من أمر رسول الله ألهاني الصفق بالأسواق،

 سيدنا عمر كان من الملازمين لكن السنة قد تخفى على أكابر العلماء حتى تخفى على أكابر الصحابة، والمقدم هو قول النبي عليه الصلاة والسلام.

البيوت التي هي لكم يعني فيها زوجتك فهذه لا تستأذن فيها، لكن جاء الأدب الحسن عن عبد الله بن مسعود وترويه زينب زوجته أنه كان إذا وقف على الباب تنحنح وبزق وتأخر وحك رجليه في الارض تقول زينب حتى لا يرى منا أمرا يكرهه، وهذا من الأنس، يعني هو لا يريد أن يراها في منظر هي لا تحب أن يراها عليه، وإذا كان الحكم يدور مع علته وجودا وعدما فإذا كنت تعلم أنك سترى ما تكره على كل حال فهذا الأدب ليس هذا محله،

 لكن طبعا نساؤكم لا ترون منهن ما تكرهون، فهذا الأدب مع أمثال نسائكم حسن إن شاء الله.

 يعني مثلا مصلحة حكومية أو متجر أو محل من المحلات ولك فيه منفعة هنا لا تستأذن، لأن هذه الأماكن غير مسكونة، هي مأهولة بالناس لكنها غير مسكونة فليس فيها من يضع ثيابه وتنكشف عورته، فكل هذه الأماكن تدخل فيها بغير استئذان.

(وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) يعلم ما أظهرتم وما أخفيتم، اطَّلَعَ رَجُلٌ مِن جُحْرٍ في حُجَرِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِدْرًى يَحُكُّ به رَأْسَهُ، فَقالَ: "لو أعْلَمُ أنَّكَ تَنْظُرُ، لَطَعَنْتُ به في عَيْنِكَ، إنَّما جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِن أجْلِ البَصَرِ". فمن يريد التلصص على العورات فالله تعالى يعلم ما في قلبه، فالله تعالى شرع أحكام الاستئذان لأجل البصر؛ لأجل ألا تظهر العورات أمام الناس، فمن كان في قلبه مرض ويطلع على عورات الناس فقد ورد في الصَّحيحينِ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «من اطَّلع في بيتِ قومٍ بغَيرِ إذنِهم، فقد حَلَّ لهم أن يَفقَؤوا عَينَه».

والظاهر والله أعلم أن قوله تعالى (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ) تذييل للآيات الثلاث، وليس تذييلا للآية التاسعة والعشرين فقط، إنما تذييل لآيات الاستئذان كلها؛ يعني تذييل للموضوع كله.

 هذه الآية يأمر الله تعالى فيها نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لنا غضوا من أبصاركم (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) ليس قل للمؤمنين غضوا؛ في تقدير هنا أنه قال غضوا فهم غضوا يعني امتثلوا الأمر، فالجزم هنا على تقدير جواب الأمر. فالواجب لما يأتيك هذا الخبر والأمر من النبي عليه الصلاة والسلام أن تسرع في الامتثال.

(وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ) يعني أطهر وأنمى لإيمانهم.

 الغض من الشيء هو النقص منه، قال لقمان لابنه: (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) يعني اخفض من صوتك، فغض من بصرك يعني اخفض من بصرك؛ يعني قلل إطلاق البصر،

 قال الحافظ ابن كثير: «هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرِّم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على مُحرَّم من غير قصد، فليصرف بصره عنه سريعًا»،

 الأحاديث وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام في هذا منها عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن جده جرير بن عبد الله البجلي ، رضي الله عنه ، قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم ، عن نظرة الفجأة (نظرة إلى محرم دون قصد ولا تعمد)، فأمرني أن أصرف بصري، رواه مسلم،

 ومن لطيف ما يروى في هذا ما رواه الاوزاعي قال : حدثني هارون بن رئاب أن غزوان وأبا موسى الأشعري كانا في بعض مغازيهم ، فكُشفت جارية فنظر إليها غزوان ، فرفع يده فلطم عينه حتى نفرت ، فقال : إنك للحاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك ؛ فلقي أبا موسى فسأله فقال : ظلمت عينك ، فاستغفر الله وتب ، فإن لها أول نظرة وعليها ما كان بعد ذلك. وفي معناه الحديث الحسن المروي عن النبي عليه الصلاة والسلام: "يا عليُّ ! لا تُتبعِ النَّظرةَ النَّظرَةَ، فإنَّ لَكَ الأولى ، ولَيسَتْ لَكَ الآخرَةُ"،

 يعني إن وقع بصرك على شيء محرم من غير قصد فالله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها أما أن تتعمد النظر وتديم النظر وتطيل النظر فهذا مكتوب عليك ومؤاخذ به،

 والنبي عليه الصلاة والسلام عدّ النظر إلى المحرمات زنا؛ فقد روى مسلمٌ في صحيحه مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كُتِب على ابن آدم نصيبَه من الزنا، مُدرِكٌ ذلك لا محالة؛ فالعينانِ زناهما النظر (يعني النظر إلى المحرمات زنا)، والأذنان زناهما الاستماع (يعني التلذذ بالسماع إلى النساء)، واللسان زناه الكلام (يعني التلذذ بالكلام مع النساء)، واليد زناها البطش (اللمس)، والرِّجْل زناها الخُطى، والقلبُ يهوى ويتمنَّى، والفرج يصدقُ ذلك ويُكذِّبه"

 يعني الفرج لو صدق ذلك بالزنا فهذا هو الزنا الحقيقي الذي عليه الحد، وما دون ذلك هو من الزنا يسمى زنا لكن من الزنا الذي هو دون الزنا.

 وقوله عليه الصلاة والسلام كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة هذه كتابة كونية يعني أن الله تعالى قدّر أن يقع الناس جميعا في تلك المعصية؛ فكل واحد يدرك من هذه المعصية ما يدرك؛ لكن الإنسان يؤاخذ طبعا لأن الكتابة الكونية غير الكتابة الشرعية، وكتب شرعا (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) فالكتابة الكونية أن الله عليم أن الإنسان ضعيف؛ وواقع في تلك المعصية لا محالة، لذلك ختم الله الآيات بقوله (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فكون الإنسان يقع في تلك المعصية ليس مبررا أن يتمادى فيها؛ بل الواجب عليه أن يتوب.

 النبي عليه الصلاة والسلام أيضا لما نهى الصحابة كما في الصحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم والجلوس على الطرقات " . قالوا : يا رسول الله ، لا بد لنا من مجالسنا ، نتحدث فيها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أبيتم ، فأعطوا الطريق حقه " . قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال : " غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".

 وغض البصر كان من آداب الجاهلية لكن الجاهلية عرفته في الجيران، قال عنترة:

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي * حتى يواري جارتي مأواها

 فمن مروءة أهل الجاهلية عدم الاطلاع على جارته إن مرت في طريقه حتى يواري جارتي مأواها، لكن الإسلام جاء بغض البصر عن المحرمات كلها وليس فقط الجارة ، (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) يعني عن المحارم كلها؛ لأن النظر باب إلى القلب:

كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والعبد ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحبا بسرور عاد بالضرر

الغيد جمع غيداء هي المرأة حسنة القوام، لا مرحبا بسرور جاء بالضرر يعني لا ينبغي للمؤمن أن يكون هذا سلوكه وإنما المؤمن يغض بصره حتى يغلق أبواب الشيطان على نفسه. 

وكنت متى أرسلت طرفك رائدا     لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر     عليه ولا عن بعضه أنت صابر

ماذا استفدت غير الحسرة والندامة، أنت مثلا نظرت للجميلات وأنت لا تجد لهن سبيلا، فماذا استفدت! الأولى أن تغلق هذه الأبواب على نفسك بغض البصر.

 حديث الفضل بن عباس من الأحاديث الجميلة في غض البصر، عَنْ عبداللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الْآخَرِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ، أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ..... صحيح مسلم

فقال العباس: يا رسول الله؛ لويت عنق ابن عمك، قال: رأيت شابا وشابة، فلم آمن عليهما الشيطان ـ مسند أحمد، 

قوله تعالى (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) من رحمته تعالى أن قال "من" ومن هنا للتبعيض وورد عن السلف صريحا أن "من" هنا للتبعيض،

 في قوله تعالى (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) لم يقل ويحفظوا من فروجهم فهذه ليس فيها تبعيض،

 لكن النظر فيه مباح كنظر للضرورة أباحه الله تعالى وكنظر الفجأة مثلا فهذه خارج التكليف أصلا، أما في التكليف يعني فيما أنت مخير فيه لو فصلناه فمنه:

 نظر إلى عورة فأنت مأمور بغض البصر عن العورات؛ هذا متفق عليه بشهوة أو بغير شهوة، حتى لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة؛ لا يجوز قولا واحدا سواء وجدت شهوة أو لم توجد شهوة، وبشهوة طبعا أشد حرمة. 

طيب النظر إلى وجه المرأة أو كفيها لحاجة البيع والشراء والأخذ والعطاء والتطبب ونظر الخاطب إلى المخطوبة، كل هذه الأمور فيها رخصة، والإنسان يحرص ألا توجد منه الشهوة فإن وجدت منه الشهوة وجب علي أن يغض بصره ما استطاع. (نظر الخاطب إلى المخطوبة مستحب على أقل درجاته حتى يرتضيها، انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما، إذا خطب أحدكم امرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل، سيدنا جابر كان يختبئ للمخطوبة حتى يرى منها يعني ما يدعوه إلى نكاحها، فإن رأى منها ما يدعوه إلى نكاحها وارتضاها زوجة فليس له أن ينظر إليها). 

النظر إلى غير عورة بغير شهوة لغير حاجة، هي مثلا جارة ليست من محارمي لكن تربينا معا مثلا، هذه المسألة مما اختلف فيها العلماء،

 شيخ الإسلام ابن تيمية في كلام له :

 هل يحرم النظر إلى وجه الأجنبية لغير حاجة، أجنبية يعني ليست من المحارم،  هل يحرم النظر إلى وجه الأجنبية لغير حاجة، يقول: رواية عن الإمام أحمد: يُكره ولا يحرم. وقال ابن عقيل: لا يحرم النظر إلى وجه الأجنبية إذا أمن الفتنة. انتهى قلت (المرداوي): وهذا الذي لا يسع الناس غيره، خصوصاً للجيران والأقارب غير المحارم الذين نشأ بينهم، وهو مذهب الشافعي...

إذن هذه المسألة فيها أقوال للائمة منهم من قال بالكراهة، ومنهم من قال بالإباحة ومنهم من قال بالتحريم. لكن الظاهر إذا كان النظر لغير شهوة وكان لعادة وليس لحاجة فنقول كما قال المرداوي هذا الذي لا يسع الناس العمل إلا به، هذا النظر إذا لم يكن بشهوة وريبة فهو مباح لا حرمة فيه، لكن لو استطاع أن يتجنب فضول النظر فهذا أحسن. نحن نقول هذا الكلام حتى لا نحرِّج على أهل التقى، فنقول لهؤلاء المتقين خففوا على أنفسكم بقول الله تعالى (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) أن من هاهنا للتبعيض فإذا احتجت إلى النظر لبيع وشراء وأخذ وعطاء للحاجة والعادة فإن الله تعالى رخّص في هذا، أما من دونهم -وهم أكثر الناس- فيغضوا أبصارهم ما استطاعوا، خاصة ونحن في زمان قل فيه من يغض بصره وكثرت فيه الفتن.

 من الأحاديث العظيمة الواردة في هذه المسألة قول النبي عليه الصلاة والسلام عند البخاريُّ وغيره عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُباشِر المرأة المرأة فتنعَتها لزوجِها كأنه ينظر إليها" هذا أهون من النظر، امرأتك تصف لك امرأة أجنبية؛ تصف جسمها أو شعرها مثلا فهذا لا يجوز، نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام نهيا صريحا.

(وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) يعني عن الزنا، وبعض السلف قال يحفظوها عن أن يطلع عليها غيرهم، يعني يحفظوا العورات، عن بهزِ بنِ حكيمٍ عن أبيه عن جدِّه قال قلتُ يا رسولَ اللهِ عوراتُنا ما نأتي منها وما نذرُ قال "احفظْ عورتَك إلا من زوجتِك أو ما ملكت يمينُكَ قال قلتُ يا رسولَ اللهِ إذا كان القوم بعضُهم في بعضٍ (قافلة أو رحلة أو معسكر مثلا) قال إنِ استطعتَ أن لا يَرينَّها أحدٌ فلا يَرينَّها قال قلتُ يا رسولَ اللهِ إذا كان أحدُنا خاليًا قال اللهُ أحقُّ أن يُستحيا منهُ منَ الناسِ"، فحتى وأنت خالي يجوز التعري طبعا لكن الأفضل أن تستحي من الله وهو أحق من تستحي منه.

 (ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ) غض البصر وحفظ الفروج أزكى وأطهر للمؤمن.

(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) الخبرة علم الخفايا، وهذا التذييل للآية مقصود، فلما تخطف نظرة محرمة فتذكر أن نظر الله أسبق إليك، خبير بما يصنعون؛

وهو البصير يرى دبيب النملة السـ ... ـوداء تحت الصخر والصوان
ويرى مجاري القوت في أعضائها ... ويرى نياط عروقها بعيان
ويرى خيانات العيون بلحظها ... ويرى كذاك تقلب الأجفان

 فيعلم خائنة الأعين لن تخفى عليه خافية. (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) تأمل قوله تعالى (يَصْنَعُونَ) ليس يعملون، لأن النظر يترتب عليه مصانع من الفساد.

(وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) مع أن قوله تعالى (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ) داخل فيه المؤمنين والمؤمنات لكن الله خص النساء بالذكر، (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) وأيضا خفف الله تعالى عنهن في مسألة التبعيض "من أبصارهن" فالمرأة لا يجوز لها أن تنظر إلى عورة المرأة ولا إلى عورة الرجل، والنظر لحاجة كالبيع والشراء والأخذ والعطاء وغيره مباح، حتى إن كثيرا من أهل العلم يتوسع في مسألة النساء ويقول أن نظر النساء للرجال ليس كنظر الرجال للنساء، فيقولون النظر لغير حاجة بغير شهوة ليس حراما عليهن لأن عائشة رضي الله عنها نظرت إلى لعب الحبشة في المسجد والنبي عليه الصلاة والسلام يسترها، شرط أن يكون النظر بدون تلذذ وشهوة ولغير عورة، فأمر النساء أهون في هذه المسألة لأن الرجال ليس فيهم المفاتن التي في النساء. أما اذا نظرت بشهوة فهو حرام اتفاقا، ولا يحتج أحد بحديث عبد الله بن أم مكتوم على التحريم المطلق فيقول أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لأم سلمة وغيرها من أمهات المؤمنين احتجبا منه فقالت يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا فقال أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟! نقول الحديث ضعيف لا حجة فيه على هذا التحريم.

(وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) أيضا النساء مأمورات بهذا، والسورة أصلا من مقاصدها الأساسية النهي عن فاحشة الزنا، فالمرأة مأمورة لا شك بحفظ الفروج والله تعالى شدد في هذا الأمر وأنزل فيه الحد ووصف المؤمنات بأنهن غافلات عن صنيع أهل السوء ووصفهن في سورة النساء قال  (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ).

(وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) هذا نهي للمرأة عن إبداء الزينة، فما هي زينة المرأة؟ المرأة كلها زينة، أي صاحب فطرة سليمة يرى في كل شيء في المرأة زينة، وأي إنسان يجادل في هذا إنما يجادل في باطل، وهذا مدح للمرأة، فالنساء كلهن مفاتن فلا يبدين زينتهن يعني كل المرأة، ثم استثنى الله تعالى فقال (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فإذا خرجت المرأة تتعمد أن تخفي زينتها، نهاها الله تعالى عن إبداء الزينة، تتستر سترا يخفي تلك الزينة، وروى مالك في الموطأ عن النبيء صلى الله عليه وسلم قال : نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة قال ابن عبد البر : أراد اللواتي يلبسن من الثياب الخفيف الذي يصف ولا يستر ، أي هن كاسيات بالاسم عاريات بالحقيقة. اهـ

 ومن اللطائف في سماع ابن القاسم من جامع العتبية قال مالك : بلغني أن عمر بن الخطاب نهى النساء عن لبس القباطي . قال ابن رشد في شرحه : هي ثياب ضيقة تلتصق بالجسم لضيقها فتبدو ثخانة لابستها من نحافتها ، وتبدي ما يستحسن منها ، امتثالا لقوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها.اهـ  اعجبني الأثر لأن بعض الناس لما نحتج عليه بحديث أسامة أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطاه قبطية وقال له البسها فما لبسها قال فسأله عن القبطية فقال له أعطيتها امرأتي فقال له مُرها فلتجعل تحتها غلالة -نوع ثاني من القماش- فإني أخاف أن تصف حجم عظامها، والحديث في إسناده شبهة فيقول لك الحديث ليس قويا في الإسناد ولا تحتجوا به علينا، نقول نحن لا نحتج بالحديث فقط، إنما نحتج بقوله تعالى ولا يبدين زينتهن هي لو لبست ضيقا من الثياب يبدي مفاتن ومحاسن طب ما هي كده ابدت الزينه كده ابدت زينتها وهذا فهم الائمه يعني الامام مالك وتابعه ابن رشد فهم هذا الكلام واحتج بقوله تعالى (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فالحجة عندنا أصلا القرآن أما الحديث صح أو لم يصح فهذه مسألة أخرى، لكن القرآن صريح في النهي عن إبداء الزينة، فلو سترت جسمها بلباس ضيق يبدي المفاتن بل ممكن يحسنها عن العري نفسه لم تخفِ الزينة، بل أبدتها بأشد ما كانت ستبدو عليه. إذن اللباس الرقيقة التي تصف لا تجوز واللباس الضيقة ضيقا يبرز المفاتن والمحاسن لا تجوز. 

والمجلس القادم بإذن الله نستكمل ما استثناه الله في قوله تعالى (إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا).

والحمد لله رب العالمين