المجلس السابع - من تفسير سورة النور

من قوله تعالى: " اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (35) حتى قوله تعالى: "لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا " (38)

المجلس السابع - من تفسير سورة النور

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أما بعد فهذا هو المجلس السابع في تفسير سورة النور وقد وقفنا عند قول الله تعالى:

 اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) 

فقد توسطت هذه الآية سورة النور، وسُمِّيت السورة باسم سورةة النور لهذه الآية (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) والنور هو الهدى؛؛ فلان يمشي على نور يعني على هدى؛ على بينة، فقوله -تعالى- (الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) كما قال ابن عباس رضي الله عنه: "هادي أهل السماوات والأرض"، يعني هذا الهدى الذي عليه المخلوقات في السماوات والأرض هو من الله تبارك وتعالى، وإلا فتلك الخلائق ليس لها من أنفسها هذا الهدى ولكن الله تعالى هداها لما خلقها له، ولذا فإن موسى عليه السلام كانت حجته على فرعون (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ) يعني أعطى كل مخلوق صورة وخِلقة تصلحُ للوظيفة التي خُلق لها، ثم هداه لما خَلَقَه له، ولولا أنَّ الله تعالى هدى تلك المخلوقات لما خلَقَها له لم يكن لها من أنفسها هذا الهدى.

ونضرب على ذلك أمثلة؛ فمِن ذلك البذور التي يُلقيها الحُرَّاث في ظلمة الأرض فإذا تلك البذور ينبتُ منها أشجارٌ وافرة الظلال؛ وذات ثمار؛ وذات طعومٍ وألوانٍ مختلفة؛ وفيها نفعٌ للناس، والحقيقة أنها بذرة أُلقيت في ظلمة الأرض، فمن أين اهتدت لهذا النور؛ وخرجت إلى هذا النور، إلَّا أنّ اللهَ -تعالى- نورُ السماواتِ والأرض؛ هادي أهلَ السماواتِ والأرض، فبنورِه -تبارك وتعالى- اهتدت تلك البذور في تلك الظلمات إلى أن تصيرَ تلك الثمارَ الناضجة التي ينتفعُ بها بنو آدم ولذا يقول ربُّنا (أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ)، يعني أنتم وذلك المخلوق ليس لكم من الصنيع -من الفعل- ما يَنبتُ به هذا النبات ويصيرُ في هذه الهيئةِ الحسنة، فالزراع يحرثون الأرض، ويُلقون البذور، ويَسقون، ولا يدرون عن نباتِها شيئا. 

وتلك النُّطفُ التي في أرحامِ الأمهات؛ أو في أرحامِ الإناثِ من الخلائق، تتخلقُ في ظلماتِ الرحم (خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ)؛ فيخرجُ إنسانٌ مُصوَّر، له عينانِ، وأذنانِ، وقلبٌ نابض، ويدانِ، ورجلانِ، وله روح، فهذه النطفةُ كيف اهتدت إلا بنورِ ربِّها -تبارك وتعالى- أن تكونَ هذه الخليقة.

وتلك اللقمُ التي نلقيها في ظلمات بطوننا لا ندري عنها شيئا، ولكنَّ الله -تعالى- هيأ جهازًا هضميَا -المعدة- يطحنُ تلك اللقمة، ثم يرسلُها إلى الأمعاءِ فتستخلصُ منها الفوائد من البروتين والكربوهيدرات والدهون والمعادن والفيتامينات، وتوزع هذه الفوائد المستخلصة على أجزاء الجسم وأنت في نومك لا تدري عن ذلك شيئا، ولكن بنور الله تعالى وبهداه كان ذلك الصنيع، ثم تطرد السموم والفضلات وتخرجها عنك إلى مخرجها.

 وكذلك يخرج ربنا تبارك وتعالى من ظلمات بطون الأنعام من بين الفرث والدم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين فلا ترى فيه لونَ الدم، ولا تشم فيه رائحةَ الفرث، وإنما خالصًا كما قال ربُنا وسائغًا للشاربين.

 فهذه آيات بينات أن الله تعالى هدى تلك الخلائق لما خلقها له.

 وعينك الباصرة كيف ترى النور! وهذا من آياته أيضا تبارك وتعالى، نافذتك على الدنيا هذه العين، تسقط الأشعة على عدستى العين -القرنية والعدسة (the cornea and the crystalline lens)- وتتجمع في نقطة على الشبكية، والشبكية تحول تلك الومضة الضوئية إلى نبضات كهربائية وترسلها إلى الدماغ -المخ-، وهذا المخ في جمجمة مغلقة لم يرَ النور يومًا؛ في هذا الظلام الذي لم يخرج منه يومًا ومع ذلك يترجم تلك النبضات الكهربائية إلى صور حية، ولا يكون ذلك إلا بنور الله -تبارك وتعالى-.

 وغير ذلك من آياته -تبارك وتعالى- في نفس الإنسان، الملحدون وإمامهم داروين كانوا يقولون أن الحياة مادة، فلما اكتشفوا المادة الوراثية DNA علموا أن الحياة ليست مادة؛ الحياة معلومة تتصور على أساسها المادة، ربنا خلق معلومات في كل خلية تسمى الشفرةُ الوراثية أو DNA، وهذه الشفرة الوراثية يتخلق على أساسها الحيوان أو الإنسان أو المخلوق الذي خلقه الله -تبارك وتعالى-، وكل معلومات هذا المخلوق محفوظة في هذه الشفرة الوراثية ومرتبة ترتيبا بديعا، الإنسان مثلا له 4 مليار حرف مرتبة بنظام معين في هذه الشفرة الوراثية، وهذه الشفرة الوراثية تتناسخ ذاتيا، فلو -مثلا- حصل نزيف واحتجنا فايبرين تنسخ لنا هذه الشفرة الوراثية فايبرين، فمن أين له هذا الهدى إلا أن الله تعالى هداه لما خلقه له.

 وآيات الله تعالى في الخلائق لا تحصى، ففي الحيوان أيضا ترى الطيور تهاجر من الأماكن الباردة في موسم معين إلى الأماكن الدافئة، ويقطعون المسافات الطويلة، فمن أدرى هذه الطيور بدفء هذه الأماكن البعيدة وأنها بيئة صالحة للحياة، إلا أنهم يهتدون بنور الله -تعالى-، ثم إذا تم الموسم يرجعون إلى مواطنهم مرة أخرى لا يضلون عنها.

وإن تعجب فهجرة الأسماك في ظلمات الماء أعجب؛ لأن الأسماك يهاجر آباؤها وأمهاتها ثم تُخرج بيضها، وهذا الفقس يرجعون إلى مواطنهم بعد موت الآباء، فمثلا يهاجر سمك السلمون الأحمر والإنقيلس من المياه العذبة إلى المياه المالحة لأنه يعلم أن البيض لا ينضج إلا في المياه المالحة فيهاجرون في أشهر يناير وفبراير ومارس، وحتى صُياد السمك ينتظرونهم في رحلتهم ليرزقوا، فيهاجر الآباء إذا جاء موعد التكاثر في سن أربع أو خمس سنين إلى المحيط الأطلسي ويضعون فيه البيض ويعيشون قليلا ثم يموتون، ثم يخرج أبناء هذا السمك في الماء المالح فما أن يشب حتى يعود إلى مواطنه؛ إلى المياه العذبة مرة أخرى، فبنور من كان هذا الهدى؟!.

 وفي ممالك الحيوان من مملكة النمل والنحل من آيات الله تعالى ما فيها، حتى أن النحل يشكل تلك الأشكال السداسية ويجعل فيها تهوية ويجعل فيها أماكن التخزين وأماكن للملكة وأماكن للشغّالات وأماكن لحفظ العسل، وفوق ذلك من آيات الله تعالى أنه يأخذ مستخلص الزهور ويخرج من بطونه شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، ولم نسمع أن الناس أنشأوا مصنعا للعسل، فهذا من آيات الله تعالى ومن هداه، فهو الذي أوحى وهدى (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)) فهذا وحي وهدى.

 وهذه الحيوانات فيها آية أنها رغم هذا النظام البديع لا تأتي بجديد؛ لا تخرج عما سُخرت وخُلقت له، فالنحل الذي يصنع بيوته على أشكال سداسية وفيه التهوية والبدروم والتخزين إلى غير ذلك، لا يستطيع أن يتمكن في الأرض مثل الإنسان، لأنه مسخر لما خلق له، أما التمكين في الأرض فللإنسان فقط (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) بعدها آية (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ)، فذكر الله التمكين أولا رغم أن الخلق قبل التمكين؛ لأن الله خلقهم للتمكين، لذلك تقول الملائكة (لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا)، وأما آدم فمُعلَّم يستنبط المعلومات ويبني النتائج على الأسباب ويُمكَّن في الأرض، وأما هذه الحيوانات فلها طريقة حياة معينة، تعيش بها وتهتدي فيها بهدى الله تبارك وتعالى. 

والخفاش أيضا عجب؛ يرى بأذنيه، الخفافيش تعيش في كهوف مظلمة، ومع ذلك تتحرك بسرعة عجيبة في تلك الكهوف المظلمة، وتتحاشى الاصطدام، وتنقضّ على الفريسة بدقة عالية، وليس لها أعين؛ فبأي نور اهتدت! بنور الله تعالى، ربنا جعل لها رادار في أذنه يرسل موجاتٍ فوق صوتية ويستقبلها يعرف بها الأبعاد، وبعض الباحثين وضعوا له أسلاكا في تلك الكهوف، ظنوا أنها معتادة هذه الكهوف، فإذا الخفافيش تتحرك بنفس السرعة وتتفادى الاصطدام بتلك الأسلاك وتنقض على فرائسها، فبأي نور وبأي هدى.

وأركان النور منتشرة، الله هادي أهل السماوات والأرض، فما من مخلوق إلا وهو مهتد وقد أصابه من نور الله تعالى وهداه ما أصابه، ولذا فقد قال ربنا تبارك وتعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) لما ذكر الله في القرآن العنكبوت والنمل فالمشركون قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام كلام الله تعالى ويذكر العنكبوت! ويذكر النمل! يريدون أن الله -تعالى-  لا يذكر هذه الحشرات المستقذرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) فكل شيء من مخلوقاته له فيه من الآيات ما له، فلا تستصغر النمل والعنكبوت، بل وأقل منه؛ البعوضة فما فوقها، كثير من المفسرين قال (فَمَا فَوْقَهَا) أي في الدقة؛ في الصغر.

تلك البعوضة تضع مادةً مخدرة على الجلد حتى لا تشعر بها، وعندها ست سكاكين، فتضع المادة المخدرة على الجلد؛ وبعد تشق بالسكين؛ وتضع الخرطوم؛ وخرطوم البعوضة في غاية الدقة حتى أن العلماء فشلوا في صناعة خرطوم بهذا السمك إلى زمان الناس هذا، ثم تحلل الدم هل هو صالح لها أم لا، ثم تضع مادة حتى لا يتجلط الدم، إلى غير ذلك من الآيات التي وضعها ربنا تبارك وتعالى في مخلوقاته.

 فما من مخلوق إلا وهو دال على عظمة الله تعالى، وعلى أنه هادي أهل السماوات والأرض، وإلا فتلك المخلوقات ليس لها من أنفسها هذا النور وليس لها من أنفسها هذا الهدى، ولو سألت نفسك وأنت الُممكَّن في الأرض عن العمليات الحيوية التي تجري في جسمك حتى ترى وحتى تسمع وحتى تعقل وحتى تتحرك فإنك لا تدرك من هذا شيئا والله تعالى هو الذي هداك لما خلقك له.

لكن الإنسان مُخيَّر مُمكَّن، فهذا النور والهدي كل الخلائق وأنت -أيها الإنسان- أصابك من هذا النور ما كنت فيه مضطرا إليه لتعيش، أمّا الأمور الاختيارية فأنزل الله تعالى فيها نورا آخر وهو نور الوحي، فمن أراد أن يقتبس من هذا النور فليقتبس، (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) ابتلاء من الله تعالى بعدما أراك ذلك النور في الخلائق وفي نفسك وأنعم عليك بالنعم، أنزل لك نور وهدى القرآن أو كل كتاب أُنزل على نبي لقومه، وأرسل الرسل وقال لبني آدم هذا هو النور فمن شاء أن يقتبس من هذا النور فباب الله تعالى لا يُغلق عن أحد.

فلذا يقول ربنا تبارك وتعالى (مَثَلُ نُورِهِ) يعني مثل هداه الذي يجعله في قلوب المؤمنين (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) المشكاة هي فتحة في الحائط من جهة الداخل فقط، كوة في البيت لا منفذ لها، والمصباح في لغة العرب ليس معناها القنديل كله، لا؛ المصباح الفتيلة التي تضيء المصباح، لذلك قال الله -تعالى- (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) هذا الفتيل المضيء موضوع في زجاجة، فهذا النور مكتمل لأن المصباح؛ ذلك الفتيل المضيء؛ أحاطت به زجاجة تحميه من الهواء أن يطفئه، ومن الدخان أن يعكر صفوه، وهذه الزجاجة (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) يعني الزجاجة في نفسها نقية وفيها صفاء حتى أنها تضيء بنفسها؛ تتلألأ كالدر في لمعانه، الكوكب الدري هو الكوكب شديد الإضاءة في السماء، فتلك الزجاجة التي أحاطت بالمصباح (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ).

(يُوقَدُ) أي هذا المصباح أو الفتيل (مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ) كثيرة الخيرات والبركات، لها فوائد كثيرة وبركات وخيرات متتالية متواترة، (زَيْتُونَةٍ) وهو أصفى الزيت؛ زيت الزيتون، لذلك هو أغلى الزيت لو كان صافيا غير مغشوش، (لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ) هذه الشجرة الزيتونة المباركة ليست شرقية وليست غربية، والشجرة الشرقية التي تشرق عليها الشمس فإذا مالت عن كبد السماء يَحجب عنها ضوءَ الشمس جبلٌ أو حائط أو شجر آخر؛ المهم أنها تصيبها الشمس إذا أشرقت فقط، والغربية تصيبها الشمس إذا غربت ولا تشرق عليها لوجود حائل بين تلك الشجرة وبين الشمس إذا أشرقت، لكن تصيبها إذا غربت. أما هذه الزيتونة ليست شرقية وليست غربية، هي وسط، فالشمس تصيبها طيلة النهار فينضج زيتها ويكون من أحسن الزيت ومن أصفى الزيت، حتى إنه (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ) فالزيت في نفسه؛ في صفائه ونقائه يكاد يضيء (وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) وفهمنا من الآية أن هذا الزيت قد مسته النار فأضاء؛ فازداد إضاءة، لأن (وَلَوْ) مفهوم المخالفة أنه قد مسته النار، لكن الزيت في نفسه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار؛ كيف وقد مسته النار.

(نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ) يعني نور الزيت مع نور المصباح الذي اتقد،  (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ). 

وهذا المثل كل جزء من أجزائه له رجوع إلى جزء من أجزاء المشبه الذي هو هدى الله في قلب المؤمن، (مَثَلُ نُورِهِ) أي هداه الذي جعله في قلوب عباده المؤمنين:

(كَمِشْكَاةٍ) هي صدر المؤمن؛ إذا خلى من وساوس الشيطان ومن الحرج والضيق وانشرح للإيمان.

(فِيهَا مِصْبَاحٌ) المصباح -الفتيل- هو الهدى أو النور، الذي جعله في قلوب عباده المؤمنين.

(الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ) الزجاجة التي أحاطت بالفتيل هي قلب المؤمن في صفائه ونقائه وأنه أبيض كالصفا لا تضره فتنة. 

وهذا المصباح استمد زيته من شجرة، هذه الشجرة هي شجرة الوحي؛ القرآن والسنة، وهذه الشجرة لا شرقية ولا غربية، وإنما هي وسط، كشريعة الإسلام؛ وسط بين الشرائع ليس فيه آصار ولا أغلال. والزيت هو الإيمان الذي نستمده من الكتاب والسنة، فهذا الزيت هو الإيمان في قلب المؤمن حتى أن هذا الزيت يكاد يضيء، يعني يكاد الإيمان يبين على المؤمن ولو لم تمسسه نار؛ ولو لم يعمل أو يتكلم، فالنار هي القول والعمل، إذا عمل عملا صالحا أو قال قولا سديدا كانت تلك النار التي أضاءت ذلك المصباح.

 هذا هو المراد من هذا المثل أنك توزع أجزاء المشبه به على أجزاء المشبه، وأزيدك؛ هذا الزيت الذي أخذته من شجرة الوحي المباركة كثيرة الخير وهي القرآن الذي كلما قرأته اقتبست منه تلك البركة وتلك الخيرات، هذا الزيت يحتاج إلى من يستخلصه، فكذلك أهل العلم الذين يستنبطون الأحكام من شجرة الوحي؛ من الكتاب والسنة.

(نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ)  نور الإيمان ونور العمل.

(يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) هذا النور غير النور الأول، النور الأول اهتدت له جميع المخلوقات، فـ(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هذا هو الهدى العام الذي أصاب الخلق جميعا، لكن (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) هذا هو الهدى الخاص الذي أنت مخير فيه، فأنت حملت الأمانة، فإما أن تقتبس من هذا النور وإما أن تعرض إلى الظلمات.

 (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ) فهذا مثل مضروب (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) بالله وآياته.

(وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلأنه تبارك وتعالى عليم بخلقه فهذا مثل ضربه لهداه.

وهذه الآية ليس لها علاقة بالنور الذي هو وصف ذات الله تعالى، إنما بإجماع السلف الآية في الهدى، لأن النور الذي يُضاف إلى الله تعالى، إما إضافة صفة إلى موصوف أو إضافة مفعول إلى فاعله، لو كانت إضافة صفة إلى موصوف فهذا نور ذاته تبارك وتعالى، و(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)، "حِجابُهُ النُّورُ، وفي رِوايَةِ : النَّارُ، لو كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجْهِهِ ما انْتَهَى إلَيْهِ بَصَرُهُ مِن خَلْقِهِ." كما عند مسلم، (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا) (الزمر) أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق -تبارك وتعالى- للخلائق لفصل الخطاب؛ فهذا من باب إضافة الصفة إلى موصوف، فالمراد به نور ذات ربنا -تبارك وتعالى-.

 وأما هذا النور هنا فليس نور الذات؛ وإنما هو من باب إضافة مفعول إلى فاعله؛ إضافة الهدى إلى فاعل هذا الهدى؛ إلى الله تبارك وتعالى، سواء كان الهدى الذي فعله في السماوات والأرض والخلائق جميعا في قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أو الهدى الذي جعله في قلوب عباده المؤمنين الذي هو (كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ).

فإذا سمعت هذا واشتقت إلى هذا النور فقلت وأين أجد هذا النور فيقال لك:

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ) هذا يرفع حيرة المفسرين تماما في تعلق الجر والمجرور، فهو متعلق بسؤال، وقد دلنا على هذا قراءة ابن عامر وغير حفص عن عاصم؛ قرؤوا (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) -بفتح الباء المشددة في يسبح؛ على أنه مبني لما لم يُسم فاعله-، ثم (رِجَالٌ) هذه رأس آية لكي تتحمل القراءة الثانية، فهنا سؤال؛ أين هذا الهدى؟  ومن أهل هذا الهدى؟، فالمسلم أو السامع إذا سمع هذا المثل وعقله يقول أين أجد هذا النور؟ فيُقال له (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) وهي المساجد؛ مساجد الله تعالى التي أذن أن ترفع؛ أن تقام وأن تبنى بناء حسنا للمصلين؛ وأن ترفع يعني أن تُطهر من الدنس والنجاسات والخبث (وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

(وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) يعني بالذكر والأذان وتلاوة القرآن وتعلم الأحكام وأقوام يجتمعون في بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم، فتغشاهم الرحمة وتنزل عليهم السكينة وتحفهم الملائكة ويذكرهم الله فيمن عنده. 

(يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) بالغدو وهو أول النهار؛ صلاة الفجر، والآصال وهو آخر النهار؛ صلاة العصر، ورسول اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ صلَّى البرْديْن دَخَلَ الجنَّة متفقٌ عَلَيهِ.

من قرأ بقراءة الجمهور (يُسَبِّحُ) بكسر الباء يكون (رِجَالٌ) فاعل، ومن قرأ بقراءة حفص عن عاصم (يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) وقف على قوله: (وَالْآصَالِ) وقفا تام المعنى، ولكن يكون السؤال مستمرا؛ من أهل هذا النور فيأتيك الجواب:

رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)

 فأهل هذا النور هم (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) فلا تشغلهم الدنيا عن الآخرة، هم يمارسون الدنيا لأجل معاشهم، ويخالطون الناس، ويصبرون على أذاهم، يبيعون ويشترون ويضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، لكن ذلك لا يلهيهم عن ذكر الله؛ عن أحكام الله تعالى وإقامة دينه وشرعه، وذكره حتى في أعمالهم.

(وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) فإذا حانت الصلاة فالعمل ليس عبادة بل العبادة الآن هي الصلاة التي حان وقتها، ولا بيع ولا شراء، ثم بعد الصلاة يكون العمل عبادة إذا كان بنية صالحة، لكن لا يقدم على العبادة الأساسية التي اختبرنا الله بها في الأرض.

(لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ) البيع من التجارة، فهذا من عطف الخاص على العام، لأن الناس عندهم رغبه في البيع لأن فيه المكسب، فإذا جاءتك صفقة في وقت الصلاة هل تغلق الحانوت -المحل- أم ستقول الصفقة غالية وتؤثر الدنيا على الآخرة.

 (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) يعني أداءها حتى تكون قائمة، تقيم الشيء أي تؤديه أداءً حسنًا، فتؤدي ركوعَها وسجودها، في وقتها، ليست كصلاة المنافق حتى إذا قربت الشمس على الغروب قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا، وأما المسلمون فهم رجال يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة؛ يعني يخرجون حق الله تعالى في أموالهم، هذه صفاتهم.

(يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) قلوب هؤلاء دائما أمام أبصارها ذلك اليوم، فهم في كل أعمالهم يخافون ذلك اليوم؛ يذكرون ذلك اليوم ويعملون له؛ لأنهم يخافون هذا اليوم الذي تتقلب فيه القلوب، (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ)، وتتقلب فيه الأبصار لكثرة الأهوال؛ تتطاير الصحف ويجيء الله تعالى لفصل القضاء ويُجاء يومئذ بجهنم، فتتقلب الأبصار لكثرة الأهوال.

فهؤلاء الرجال يقول الله تعالى عنهم:

 (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ) يعني عند الجزاء ربنا يطمئنهم أنه سيجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون، فيختار لهم أحسن العمل ويجزيهم عليه، أو قل أن أحسن هنا لا تفضيل فيها؛ يعني بحسن أعمالهم ويكفِّر عنهم أسوأ الذي كانوا يعملون، وقل هنالك أيضا منزوعة التفضيل والمراد بها سيء العمل. فالله تعالى يختار حسن العمل للمؤمن ويبرزه له، كما في الحديث "إنَّ الرجلَ ليتكلم بالكلمةِ من الخيرِ، ما يعلم مبلغَها ؛ يكتب اللهُ له بها رضوانَه إلى يومِ يلقاه" تخيل هذا العبد سيلقى الله فيقول له ربنا تذكر يوم كذا لما قمت فقلت كذا وكذا فيقول يا رب أذكر فيقول له ربنا قد رضيت عنك من يومها؛ فتخيل فرحة هذا المؤمن بمثل هذا المقام بين يدي الله تعالى.

 فالله يصطفي للمؤمنين أحسن أعمالهم ويجزيهم بها، وليس ذلك فقط بل (وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ) فلن يعطيَ على قدر الأعمال بل يعطي بالفضل، وفضله تبارك وتعالى خير لهم من جميع أعمالهم.

(وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي غني من أغنياء الدنيا عندما ينفق يحسب ماله كم سينقص بهذه النفقة؛ فينفق أو يمسك، لكن الله تعالى إذا أنفق لا يحسب لأن خزائنه ملأى لا تنفد، يعطي بغير حساب، والله يرزق من يشاء بغير حساب فنسأل الله تعالى أن يدخلنا في رزقه الذي هو بغير حساب.

 وصل اللهم على محمد والحمد لله رب العالمين.