المَجْلِسُ الثالث من مجالس تفسير سورة النور - تفسير آيات حادثة الإفك

من قوله تعالى:  (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ) - إلى قوله تعالى: ٱلْخَبِيثَـٰتُ لِلْخَبِيثِينَ ...(٢٦)

المَجْلِسُ الثالث من مجالس تفسير سورة النور -  تفسير آيات حادثة الإفك

الحمدلله رب العالمين وصلِّ الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله أيها الإخوة الكرام مع ثالث حلقات تفسير سورة النور، ونبدأ في الصفحة الثانية.

يقول الله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)

 (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ) عصبة أي جماعة، وأراد الله تعالى فيما يظهر التقليل؛ يعني قلة من المؤمنين هم الذين خاضوا في الإفك، (مِّنكُمْ) يعني من المسلمين، صحيح أن الذي تولى كبر ذلك رأس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول ولكن تبعه جماعة من المؤمنين فوقعوا في ذلك الإفك كان منهم حسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ومسطح بن أثاثة، فيقول تعالى أن الذين جاءوا بالإفك (عُصْبَةٌ ) يعني جماعة قليلون (مِّنكُمْ) يعني كان لا ينبغي أن يخوضوا في مثل هذا الإفك فهذا إنحاء على الذين وقعوا في تلك المعصية، والإفك حقيقته نوع من الكذب، فالكذب منه البهتان وهو الذي يبهت سامعه من شدة  الكذب، ومنه الإفك وهو كذب فيه قلب وتبديل للحقيقة، فبدل من أن نتكلم عن عائشةَ بالعفة والطهر والحصان والغفلة عن صنيع أهل السوء نتكلم عنها بتلك الفاحشة، فأفك أي قلب، والله تعالى سمى قرى قوم لوط المؤتفكة لأنه جعل عاليها سافلها أو لأنهم قلبوا فطرة الله من رغبة الرجال في النساء ورغبة النساء في الرجال.

 عن هشام بن عروة، عن عروة: أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان: كتبت إليّ تسألني في الذين جاءوا بالإفك، وهم كما قال الله: ( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) وأنه لم يسمّ منهم أحدا إلا حسان بن ثابت، ومسْطَح بن أثاثة، وَحَمْنة بنت جَحْش، وهو يقال في آخرين لا علم لي بهم؛ غير أنهم عصبة كما قال الله.

 (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) يعني لا ينبغي للمؤمن وقد أصابته مصيبة وبلاء وقع عليه أن يسيء الظن بالله تبارك وتعالى، فإن ما يصيب المسلم لا يخلو من الخير إن قابل ما أصابه بالعبادة؛ لأن الله تعالى خلقنا في الدنيا لنعبده فما أصابنا من شر لو كنا من الصابرين وكنا من العابدين في هذا الشر فإن المقام يؤول إلى الخير، وأنت لا تدري ما في تضاعيف هذا الشر، فالناس تحسب أن هذا الإفك شر لكن كان من ورائه خير لعائشة ولآل أبي بكر ولأمة الإسلام كلها، وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة، ما في خير ليس فيه شر إلا في دار  النعيم. 

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) كبر الشيء هو معظم  الشيء أي أكثر  الشيء، كما قالت عائشة في حديث الإفك "وكان عبد الله بن أبي ابن سلول هو الذي يستوشيه" يعني ينقِّش عنه ويخرجه ويفشيه في الناس. (لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فهذا وعيد لهذا المنافق بالعذاب العظيم.

 لولا هنا بمعنى هلَّا، لولا تأتي بمعنيين؛ إمَّا بمعنى الشرط يعني يكون لها فعل شرط وجواب شرط، أو تأتي بمعنى التحضيض يعني ربنا يحض المؤمنين لو وقعت حادثة مثل هذه الحادثة ألا يكون سبيل المؤمن في هذه الحادثة مثل هذا، فلا نرى مثلا أعراض إخواننا المسلمين تنتهك ويخاض فيها وهم على خير وبركة ونسكت، لا؛ ينبغي أن ندافع عنهم وأن نذب عنهم، عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن بعض رجال بني النجار، أن أبا أيوب خالد بن زيد، قالت له امرأته أمّ أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أمّ أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله، قال: فعائشة والله خير منك، قال: فلما نـزل القرآن، ذكر الله من قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ وذلك حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا، ثم قال: ( لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ )... الآية: أي كما قال أبو أيوب وصاحبته، فكان هذا موقف أبي أيوب الأنصاري وزوجته وجماعة كثر من المسلمين بخلاف الذين اتبعوا كلام المنافقين، (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا) لم يقل سبحانه بإخوانهم ولا بأم المؤمنين؛ بل قال بأنفسهم، الله يقول لك من يخوض في عرض أخيك كأنه خاض في عرضك وذَبُّك عن عرض أخيك كَذّبِّكَ عن عرض نفسك. (وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ) أي كان ينبغي أن يقولوا هذا الكلام قبل أن ينزل القرآن.

الله عز وجل يلوم المسلمين لأنه قد تقدم الحكم (وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ) فالحكم ثابت من قبل، وهم لم يأتوا على هذا الإفك بشهيد واحد فهم عند الله كاذبون. 

يعني لولا أن الله تعالى تفضَّل على المؤمين وأنزل رحمته عليهم في الدنيا وفي الآخرة لكان أصاب المسلمين في هذه الحادثة عذاب عظيم، لكن الله تعالى تغمد المسلمين برحمته يعني الذين خاضوا في الإفك من المسلمين فإنهم تابوا إلى الله تعالى بعد نزول هذه الآيات والله تعالى قبل توبتهم، فإن سيدنا حسان بن ثابت رضي الله عنه كان يستاذن على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فكانت تاذن له فكانت تُلام في مثل هذا؛ كانوا يقولون لها تاذنين لهذا وقد قال ما قال فكانت تقول إنه كان يُدافع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتنشد من شعر حسان فإن حسان له من الشعر في الدفاع عن النبي عليه الصلاة والسلام ما له، قال عروة، كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان، وتقول: إنه الذي قال: 

فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي * لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ. 

رواه البخاري، وعن أبي الضحى عن مسروق قال دخلت على عائشة وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعرا فقال: 

حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيبَةٍ * وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِن لُحُومِ الغَوَافِلِ

فقالت له عائشة لكنك لست كذلك.

حصان أي محصنة، رزان من الرزانة والثبات، فليست كثيرة الخروج والدخول كسلوك الفاجرات، حصان رزان ما تزن بريبة يعني ما تُرمى بشبهة، وتصبح غرثى من لحوم الغوافل؛ غرثى يعني جوعانة من لحوم الغوافل يعني لا تخوض في أعراض المؤمنات الغوافل -جمع غافلة فواعل جمع فاعلة-، اللطيف أن عائشة كانت تداعبه في هذا البيت وتقول له ولكنك لست كذلك لِمَا خاض في عرضها. 

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) أي تتلقون هذا الإفك بألسنتكم من لسان إلى لسان، حتى الذي لم يخض كان ينقل الكلام؛ يقول حسان يقول عن عائشة كذا وحمنة تقول عن عائشة كذا، ومسطح بن أثاثة يقول عن عائشة كذا وكذا، فتناقلوا  الكلام، (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ) أي أن هذا القول لم يتجاوز اللسان فليس له حقيقة في الواقع ولا حقيقة في القلوب؛ يعني لم يطابق هذا القول واقعا ولا حقيقة إنما هو كان مجرد قول باللسان؛ كما قال الله تعالى في حق الذين قالوا المسيح ابن الله وعزير ابن الله قال (ذَٰلِكَ قَوۡلُهُم بِأَفۡوَٰهِهِمۡۖ) قول باللسان وما أسهل قول اللسان؛ قل ما تريد لكن الحقيقة على خلاف هذا، (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ) ممكن تقع كلمة مثلا في حق بعض  المسلمين ويخوض الناس في عرض بعض المسلمين والناس يتناقلون هذه الكلمة أو ممكن الناس يتناقلون كلمة في حق حكم من الأحكام الشرعيه أو يتناقلون شبهة من الشبهات ويحسبون هذا الكلام هينا عند الله، والكلام له أثره العظيم حتى في الكفر والإيمان، فالإنسان يدخل الإسلام بكلمة وقد يخرج منه بكلمة، ولا شك أن هذا الكلم له دلالة على ما في قلوب الناس، "فان العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه" نسأل الله تعالى هذا الفضل يعني ممكن واحد يقوم مقاما في الدفاع عن الإسلام وأعراض المسلمين ويلهمه الله تعالى كلمة يكتب الله تعالى بها له رضوانه إلى يوم يلقاه، لكن دفعه إلى هذه الكلمة إيمانه بالله تعالى "وأن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه" لأنه قام مقاما قميئا لم ينصر فيه دين الله تعالى وكتابه وسنة نبيه.

 كان ينبغي إذا سمعتم هذا الإفك أن تقولوا ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك، -سبحانك تعني تنزيها لك- هذا بهتان عظيم يعني كذب بين واضح عظيم في الافتراء على أم المؤمنين عائشة، سبحانك استخدمت في التعجيب؛ تقول سبحان الله عند  التعجب قالوا لأن أصل هذا أن العرب كانوا يسبحون الله تعالى عندما يرون عجيبا من مخلوقاته؛ إذا رأى عجيبا من المخلوقات يقول سبحان الله، أن ربنا لا يعجزه أن يخلق ما يشاء؛ فهو يفعل ما يشاء ويخلق ما يشاء، ثم استخدمت في كل تعجب؛ أي توسع العرب في استخدام  هذا التعجيب، لكن الأصل لو تأملت أنهم استخدموها في تنزيه الله تعالى عن أن يعجز عن أي عجيب فإذا رأوا عجيبا من خلقه نزهوه تبارك وتعالى عن العجز عن أن يأتي بالعجائب كلها في خلقه وفي صنعته تبارك وتعالى، فيجوز للمسلم أن يستخدم التسبيح عند التعجب، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لأبي هريرة لما انخنس منه وهو جنب فقال يا رسول الله كنت جنبا فاستحييت أن أجالس على غير طهارة، قال "سبحان الله إن المؤمن لا ينجس".

 هذا أيضا تحضيض على ترك مثل هذه الأقوال وموعظة من الله تبارك وتعالى، ويتعظ بهذا المؤمن إن كنتم مؤمنين، فهذا ليس شرطا وإنما حث على الفعل وتحضيض عليه، كقولك لو كنت رجلا فافعل كذا، فهذا حض على الفعل.

 هكذا آيات القرآن العظيم نزلت بيانا للناس فبينت حكم مثل هذه الحادثة وبينت أن رمي أمهات المؤمنين بالفاحشة بهتان عظيم وإفك مبين، فبين الله تعالى آياتِه للناس، (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) أي فيما ينزل من آياته تبارك وتعالى، أنزل ذلك بعلمه وشرع ذلك بحكمته ثم توعد الله تعالى الذين يخوضون في تلك الأعراض الطاهرة فقال: 

إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَـٰحِشَةُ فِى ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۭ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْـَٔاخِرَةِ ۚ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (١٩)

 مجرد محبة شيوع الفاحشة في المؤمنين يتوعد الله تعالى على ذلك بالعذاب، حتى لو لم يشع الفاحشة، مجرد أن يحب أن تشيع الفاحشة في المؤمنين متوعد بالعذاب الأليم، فلما تحدث حادثة مثلا فيها فسوق وفجور تراه سعيدًا مسرورًا، ويحب أن تُرمى المؤمنات بتلك الفواحش وأن يستسيغ الناس تلك الفواحش وتستسهلها، فهؤلاء توعدهم الله تعالى (لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۭ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْـَٔاخِرَةِ) يعذبهم الله تعالى في الدنيا بما شاء، فيبتليهم بالمصائب وتنغيص من الأبناء والأموال والأولاد، يفعل الله تعالى ما يريد أو يعذبهم على أيدي الملائكة عند الموت. (وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) يعني يعلم ما يُصلح عباده ولأجل ذلك شرع تلك الشرائع.

وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ وَأَنَّ ٱللَّهَ رَءُوفٌۭ رَّحِيمٌۭ (٢٠)

من الإشارات العظيمة في آيات الإفك أن الله تعالى وسَّطها بآية ( وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) و ختمها بآية (وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ وَأَنَّ ٱللَّهَ رَءُوفٌۭ رَّحِيمٌۭ) إشارة إلى أن وقوع المعصية من المسلم أو من المؤمن عموما ليست نهاية الدنيا لأن الإنسان خُلق ضعيفا والنفس أمَّارة بالسوء وحتى ممكن تقع في عظيم من الإثم؛ فمن كان يتخيل أن حسان بن ثابت وهو من هو يقع في مثل هذا الإفك مثلا!! لكن الله تعالى يفتح باب التوبة للمؤمنين ويتغمدهم برحمته ويذكر لهم حسناتهم فينبغي للمؤمن إذا وقع في معصية ولو كانت كبيرة ألا يقنط من رحمة الله تعالى وألا ييأس من رحمة الله فإن أبواب رحمته عظيمة، إذا كان قد عفى عن الذين تكلموا في عرض عائشة رضي الله عنها وذكر لهم ما لهم من الإيمان والفضل، حتى آية (وَلَا يَأْتَلِ) فيها ثناء على مسطح كما سيأتي.

۞ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّبِعُوا۟ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَإِنَّهُۥ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًۭا وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌۭ( ٢١)

 ( يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّبِعُوا۟ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ) الشيطان يزين للناس المعاصي ويجرهم إليها شيئا فشيئا، أو خطوة بخطوة مين كان يتخيل مثلا أن فلانا يقع في معصية كذا؛ يقال لك فلان قتل مثلا أو زنى أو سرق تقول فلان يسرق! فلان يرتشي! نقول لك لأنه اتبع خطوات الشيطان، والشيطان أخذه خطوة بخطوة حتى زلت قدمه في تلك المعصية العظيمة. (وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَإِنَّهُۥ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ) الفحشاء هي يستفحشه الناس، قد يظن ظان بنفسه أنه لا يمكن أن يقع في فاحشة مستقبحة عند كل الناس، نقول له لو اتبعت خطوات الشيطان ستقع فيها وأنت راض وتكون داعية، حتى أن بعض المفسرين قال (فَإِنَّهُۥ يَأْمُرُ ) يعني المتبع وليس الشيطان، يعني لما يتبع خطوات الشيطان سيأمر بالفحشاء التي كان يستفحشها مع الناس، والمنكر الذي كان ينكره والمجتمع كله ينكره يأتيه ويقع فيه، فالشيطان يزين للناس  المعصية العظيمة لكن شيئا فشيئا، يجرهم إليها شيئا فشيئا، ونفس الشيطان طويل يخطط لمئات السنين، لو سمعت مثلا ما عليه  الغرب من المثلية الجنسية أول ما تسمع؛ فحشاء عظيمة والشيطان جرهم إلى ما هو أشد من ذلك يعني دلوقتي طالعين للاطفال الابتدائي في المدارس يعلمونهم الفارق بين "الجنس البيولوجي" و"الجنس الاجتماعي" فيخيرون الطفل الصغير -خمس سنين ست سنين سبع سنين- يقولون له تحب تختار ؟! تريد أن تكون ولد -ذكر- ولا بنت؟! ولو أراد غير جنسه يعملون له عملية تحويل! ويمنعون الزواج تحت سن 18، الزواج تحت سن 18 جريمة والتحول الجنسي عند سن 10 سنين حرية، لا يجوز للأب أن يمنع ابنه منه، لو الأب قال ابني يبقى ذكرا كما خلقه الله أو بنت كما خلقها الله يُسجن! ففحشاء ومنكر بين واضح لكل عقلاء الدنيا ومع ذلك اتباع خطوات الشيطان أرداهم في تلك المهاوي حتى أصبح المنكر لها يسجن ويعاقب لأنه بمنع تلك الفحشاء وهذا المنكر. فلا تستصغر المعصية وتقول صغيرة من الصغائر، المشكلة أنها خطوة ويأتي بعدها خطوات؛ خطوة تجر خطوة حتى تصل إلى الفحشاء وإلى المنكر. (وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًۭا) فينبغي أن نعتصم بالله تعالى وأن نطلب الهدى من الله فإن فضل الله تعالى ورحمته هي التي تزكي العباد، فلا تعتمد على حولك وقوتك، "كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم". (وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌۭ) أيضا يقول الله لك اجتهد في طلب  التزكية فإني سميع لأقوال عبادي عليم بنياتهم، فمن يدعو الله بتضرع وتكون نيته صالحة ويطلب الهدى من الله ربنا يزكيه ويوقفه على صراط مستقيم (مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الأنعام: 39).

وَلَا يَأْتَلِ أُو۟لُوا۟ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوٓا۟ أُو۟لِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينَ وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا۟ وَلْيَصْفَحُوٓا۟ ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌ( ٢٢)

 هذه الآية نزلت لما سيدنا أبو بكر حلف ألا ينفق على مسطح، ولسان حاله: 

وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً عَلَى النَّفْسِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّدِ

 كأنه يقول كفلتك يتيما وكبيرا، ينفق عليه حتى بعدما كبر، يقول: ولما يأتي أمر لم نعرفه في الجاهلية -يعني كيف وقد أعزنا الله بالإسلام- تكون أنت يا مسطح أول الخائضين في هذا  الأمر والله لا أنفعه بنافعة أبدا، وحلف ألا ينفق على مسطح، فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَلَا يَأْتَلِ) يعني ولا يحلف (أُو۟لُوا۟ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ) هو سيدنا أبو بكر؛ صاحب فضل في الأخلاق وسعة في الأموال (أَن يُؤْتُوٓا۟ أُو۟لِى ٱلْقُرْبَىٰ) لأن أم مسطح بنت خالة أبي بكر (وَٱلْمَسَـٰكِينَ) لأن مسطحا كان مسكينا (وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ) ومسطح كان من المهاجرين بل كان بدريا، لما عائشة قالت لأم مسطح "اتسبين رجلا شهد بدرا". (وَلْيَعْفُوا۟ وَلْيَصْفَحُوٓا۟) ربنا يحث أبا بكر ومن شابهت حالته حالة أبي بكر، فأنت ممكن تكون عندك أقارب فقراء تعطيهم وتنفق عليهم وفجأة تجدهم يتكلمون فيك بالسوء أو في أبنائك، فتقول لا أعطيهم ولا أنفق عليهم وغيرهم أولى منهم، فالله يقول: (وَلَا يَأْتَلِ أُو۟لُوا۟ ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوٓا۟ أُو۟لِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينَ وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا۟ وَلْيَصْفَحُوٓا۟ ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌ) قال أبو بكر بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي ورجع إلى مسطح النفقة وحلف ألا يقطعها عنه. عبد الله بن المبارك يقول في هذه الآية هذه أرجى آية في كتاب الله وهذا نظر دقيق من سيدنا عبد الله بن المبارك في هذه الآية وقد نظرتُ خلفه فوجدت فيها ثلاث مواضع دفعت عبد الله بن المبارك إلى هذا القول، أولا قوله تعالى (وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ) فوصف مسطح بالهجرة وقد خاض في هذا الإفك يعني أن الله تعالى يحفظ حسنات المسيئين ومسطح أساء أيما إساءة ومع ذلك لما ربنا ذكره قال عنه (وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ) ذكر له الهجرة فمعنى هذا أن الإنسان لو خلط عملا صالحا وآخر سيئا فان الله تعالى يحفظ له حسناته ولا يضيعها، وقوله تعالى ( أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ ) لا شك أن هذا من تودد الله تعالى الغفور الرحيم لعباده، وقوله تعالى (وَلْيَعْفُوا۟ وَلْيَصْفَحُوٓا۟) يعني إذا أمر الله تعالى بالعفو والصفح في هذا المقام فكيف يكون عفوه وصفحه، فلأجل هذا قال عبد الله بن المبارك هذه أرجى آية في كتاب الله. 

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْغَـٰفِلَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ لُعِنُوا۟ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْـَٔاخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌۭ (٢٣)

 هذه الآية ختام قصة الإفك ولو قرأت في التفاسير ستجد فيها خلاف، هل هي في حق أمهات المؤمنين ولا في حق المؤمنات عامة، ابن عباس له كلمة جميلة قال هي في حق عائشة وأمهات المؤمنين وهي مبهمة يعني لم تسم أحدا فتشمل كل من يدخل في هذا العموم، كلمة مبهمة عند السلف معناها عامة ليست خاصة بأحد، الآية نزلت فيهن نعم لكنها مبهمة. (ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ) في أول مجلس تكلمنا عن تعريف  الإحصان وقلنا أنه يأتي في القرآن على أربع معاني؛ الإسلام والعفاف والحرية والزواج، وفي اللغة حصن يعني شيء يمنع نقول فلان تحصن بحصن يعني امتنع مننا بحصن، فما الذي يمنع المحصنات من الفاحشة من الزنا إما الحرية كما قالت هند أو روي عنها أنها قالت أو تزني الحرة وإمّا العفاف أنها امرأة عفيفة في نفسها، وإمّا الزوج أنها تزوجت فتحصن بزوجها، وإمّا الإسلام لأن الإسلام مانع لأهله -فليس كعهد الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل، لما أسلم ودعته إلى الفاحشة يقول لها هذا عهد قد انتهى، أحاطت بالرقاب سلاسل الإسلام، أسلمنا فأصبح في قيود وعبودية لله تبارك وتعالى-، الآية التي في الصفحة الأولى (والذين يرمون المحصنات) يعني الإسلام والحرية والعفاف؛ فمن يرمي مسلمة حرة عفيفة يدخل في هذا  الحكم سواء كانت ذات زوج أو بكرا أو ثيبا، أما آية النساء مثلا ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۖ) معناها المتزوجات ذوات الأزواج، والآية (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) يعني الحرائر، آية المائدة (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) يعني العفائف، فكل موضع من القرآن له معنى على حسب السياق. فهنا (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَـٰتِ ٱلْغَـٰفِلَـٰتِ ٱلْمُؤْمِنَـٰتِ) الإحصان هنا الإسلام والحرية والعفاف، الغافلات يعني عن صنيع أهل السوء، إذا كان بعض الصالحين ممن لهم دراية بأمور الدنيا وحوادثها إذا سمع عن صنيع أهل السوء استعجب فكيف بالنساء الغافلات، والله تعالى لم يمدح الجهل -ربما- إلا في هذا  المقام. (لُعِنُوا۟ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْـَٔاخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌۭ ).

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا۟ يَعْمَلُونَ (٢٤)

 هذه الآية فارقت آية فصلت والحديث المروي عن النبي عليه الصلاة والسلام، آية فصلت فيها:

(وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَآ أَبْصَٰرُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ) الجلود والاسماع و والابصار هذا معقول، وحديث النبي عليه الصلاة والسلام عند مسلم: كُنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَضَحِكَ، فَقالَ: هلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟ قالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسولُهُ أَعْلَمُ، قالَ: مِن مُخَاطَبَةِ العَبْدِ رَبَّهُ؛ يقولُ: يا رَبِّ، أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قالَ: يقولُ: بَلَى، قالَ: فيَقولُ: فإنِّي لا أُجِيزُ علَى نَفْسِي إلَّا شَاهِدًا مِنِّي، قالَ: فيَقولُ: كَفَى بنَفْسِكَ اليومَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الكَاتِبِينَ شُهُودًا، قالَ: فيُخْتَمُ علَى فِيهِ، فيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قالَ: فَتَنْطِقُ بأَعْمَالِهِ، قالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بيْنَهُ وبيْنَ الكَلَامِ، قالَ: فيَقولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا؛ فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ، أما هنا في هذه الآية (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ) كيف ألسنتهم؟! يعني يشهد اللسان بصفة غير التي كان يتكلم بها في الدنيا حتى المشاهد له يعرف أن المتكلم هنا ليس الشخص وإنما الجارحة اللسان، قالوا مثلا تراه فاتحا فاه ولسانه خارج من فمه ويتكلم اللسان، فاللسان هنا يشهد لأنه الذي تولى كبر المعصية فهو أكثر عضو خاض فيها، (وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم) لأنهم سعوا في الإفك بأيديهم وأرجلهم.  

يَوْمَئِذٍۢ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ (٢٥)

(دِينَهُمُ ) يعني جزاءهم ، يوم الدين يعني يوم  الجزاء، الدين يأتي بمعنى  الجزاء، كما تدين تدان تدان فكما تجازِي الناس وتعاملهم تجازَى، الله تعالى من أسمائه الديان "أنا الملك أنا الديان" يعني من يجازي عباده بالحق (يَوْمَئِذٍۢ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ) يعني جزاءهم الحق. 

(وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ) يعني الحق الواضح الذي لا يضيع عنده حق، هم كسبوا سيئات في الدنيا ونسوا أحصاه الله ونسوه يظنون أن حقوق العباد تضيع، لا، في الآخرة لما يقوم الملك العدل بالحكم بين العباد ستعرف حينئذ أن الله هو الحق المبين ما في حق يضيع، كما في الحديث الصحيح "يَحشُرُ اللهُ العبادَ أو قال يَحشُرُ اللهُ الناسَ قال وأوْمَى بيدِه إلى الشامِ عُراةً غُرْلًا بُهْمًا قال قلتُ ما بُهْمًا قال ليس معهم شيءٌ فينادِي بصوتٍ يسمعُه من بَعُدَ كما يسمعُه من قَرُبَ أنَا الملِكُ أنَا الدَّيَّانُ لا ينبغي لأحدٍ من أهلِ الجنةِ أن يَدخلَ الجنةَ وأحدٌ من أهلِ النارِ يُطالبُه بمظلَمَةٍ ولاينبغي لأحدٍ من أهلِ النارِ أن يَدخلَ النارَ وأحدٌ من أهلِ الجنةِ يُطالبُه بمظلَمَةٍ قالوا وكيف وإنَّا نأتي عُراةً غُرْلًا بُهْمًا قال بالحسناتِ والسيئاتِ" فهذا الديوان ديوان المظالم لا يترك الله منه شيئا، ممكن السيئات التي بينك وبين الله يعفو الله تعالى عنها، لكن حقوق العباد لا، (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ).

ٱلْخَبِيثَـٰتُ لِلْخَبِيثِينَ وَٱلْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَـٰتِ ۖ وَٱلطَّيِّبَـٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَـٰتِ ۚ أُو۟لَـٰٓئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌۭ وَرِزْقٌۭ كَرِيمٌۭ (٢٦)

(ٱلْخَبِيثَـٰتُ لِلْخَبِيثِينَ) أي النساء الخبيثات للرجال الخبيثين (وَٱلْخَبِيثُونَ) من الرجال (لِلْخَبِيثَـٰتِ) من النساء (وَٱلطَّيِّبَـٰتُ) من النساء (لِلطَّيِّبِينَ) من الرجال (وَٱلطَّيِّبُونَ) من الرجال (لِلطَّيِّبَـٰتِ) من النساء (أُو۟لَـٰٓئِكَ) يعني الطيبون والطيبات (مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) يعني مما يقول فيهم أهل الإفك. (لَهُم مَّغْفِرَةٌۭ وَرِزْقٌۭ كَرِيمٌۭ ) يعني هؤلاء يغفر الله تعالى لهم ذنوبهم ويرزقهم رزقا كريما وهو رزق  الجنة، والتكرار هنا للإطناب حتى يصير هذا مضربا للمثل. وهذا أمر للغالب ثم أن الله تعالى سنَّه في العباد أن تكون الخبيثات صاحبات الأخلاق  الفاسدة للخبيثين من الرجال، وأن تكون الطيبات للطيبين من الرجال، وهذا طبعا دفاع عن عرض النبي عليه الصلاة والسلام اذا كان هو أطيب الطيبين فلا شك أن تكون عائشة كذلك أطيب الطيبات، أمّا إذا اختل هذا القانون أحيانا وتزوج رجل طيب من امرأة خبيثة فإما أن يطيبها الله تعالى له بعد الزواج وهذا يحدث كثيرا ويُشاهد في الناس وإما أن يفترقا ولا يستمر هذا الزواج لأنه لو علم أنها خبيثة فإنه لا يرضى هذا الخبث في أهله فإما أن يمنعها من هذا الباطل وإما أن يفارقها.  

مسألة: هل حدَّ النبي عليه الصلاة والسلام الذين خاضوا في الإفك؟

روي عن عائشة أنها قالت: "لما نزل عُذري قام النبيُّ– صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – على المنبرِ، فذكر ذلكَ، فلما نزل أمرَ بالرجلَيْنِ والمرأةِ، فضُرِبوا حدَّهُم"

الراوي : عائشة أم المؤمنين | المحدث : الألباني | المصدر : هداية الرواة, الصفحة أو الرقم : 3512 | خلاصة حكم المحدث : فيه عنعنة ابن إسحاق -وهو مدلس-، وحسنه الألبانى فى موضع آخر.

التخريج : أخرجه أبو داود (4474) واللفظ له، والترمذي (3181)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (7351)، وابن ماجه (2567)، وأحمد (24066)

وقال ابن القطان في الوهم والإيهام فيه ابن إسحاق مختلف فيه.

ولذا لم يعتمد جماعة من العلماء على هذه الرواية، ونسب ذلك صاحب التحرير والتنوير إلى الأكثر فقال في تفسير قوله تعالى (ولولا فضل الله عليكم ورحمته فى الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم)قال: وهذه الآية تؤيد ما عليه الأكثر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد حد القذف أحدا من العصبة الذين تكلموا في الإفك. وهو الأصح من الروايات: إما لعفو عائشة وصفوان، وإما لأن كلامهم في الإفك كان تخافتا وسرارا ولم يجهروا به ولكنهم أشاعوه في أوساطهم ومجالسهم. وهذا الذي يشعر به حديث عائشة في الإفك في صحيح البخاري.

فالله أعلم