المجلس الثامن - من تفسير سورة النور
من قوله تعالى: " وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ (39) حتى قوله تعالى: "لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ ۚ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (46)

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد، فهذا هو المجلس الثامن في تفسير سورة النور وقد وقفنا عند الآية التاسعة والثلاثين وقول الله تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ …
هذان مثلان ضربهما الله تعالى لأعمال الكافرين، لما اقتبس المؤمنون من النور الذي في قوله تعالى (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) فكانوا على نور وهدى من ربهم؛ فإن الكافرين لهم أعمال، وأعمال الكافرين مثلها كأحد هذين المثلين؛ (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ) وقيعة أي أرض منبسطة؛ أرض فضاء مستوية، والسراب هو ما يراه الناظر بعد الظهر من اللمعان البعيد يحسبه ماءً، ما يكون في أول النهار وبعد العصر اسمه في اللغة الآل، لكن ما يكون بعد الظهر اسمه السراب، والآل يُرى مرتفعا قليلا فترى مثلا السفينة في الهواء، لكن السراب يُرى ظهرًا على الأرض؛ فتحسبه ماءً، والظمآن ينخدع فيه أكثر خاصة وأن العطش يغبش الرؤية، فيسعى إليه، ويجدُّ في طلبه (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) فهذا مثل لأعمال الكافرين أنهم يعملون من الصالحات في الدنيا؛ كأن يُطعمَ فقيرا ومسكينا، أو ينصرَ مظلوما، أو يحسن إلى الناس، أو يتقن صنعته، كل ذلك أعمال يظن أنها تنفعه عند الله، فإذا جاء يوم القيامة لم يجدها شيئا، يجعلها الله تعالى هباء منثورا، لأنه أُعطي أجره عليها في الدنيا، قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم "إنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بها في الدُّنْيا ويُجْزَى بها في الآخِرَةِ، وأَمَّا الكافِرُ فيُطْعَمُ بحَسَناتِ ما عَمِلَ بها لِلَّهِ في الدُّنْيا، حتَّى إذا أفْضَى إلى الآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ له حَسَنَةٌ يُجْزَى بها"، فالكافر يأخذ أجره في الدنيا؛ الصحة والعافية والأموال والبنين وما أُطعم في الدنيا، وأما في الآخرة فيبعثون ويظنون أن لهم أعمالا صالحة فيجدونها هباء منثورا، مثلهم كمثل هذا الرجل؛ ظمآن يحتاج إلى الماء بل في شدة الحاجة إلى الماء فيرى هذا السراب (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا).
(وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ) هذا انتقال من المثل إلى الحقيقة، وهذه طريقة القرآن في ضرب الأمثال، فالمثل مشبه ومشبه به، وعادة القرآن في ضرب الأمثال أن ينقلك من المشبه به إلى الحقيقة، فأول مثل في القرآن (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) فالمشبه به النار، ولم يقل الله (ذهب الله بنارهم)، فهنا يضرب ربنا للنفاق مثلا؛ أنهم ذاقوا حلاوة الإيمان وعرفوا أن الله حق ثم كفروا بعد إيمانهم، فمثل المنافق كمثل الذي استوقد نارا، هذه النار أضاءت له وأبصر ما حواليه، ورأى الطريق ورأى ما يضره فيتحاشاه، فهذه النار مثل مضروب للإيمان؛ نور الإيمان، الذي يرى به الإنسان حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، ثم هذا المنافق آثر الدنيا على الآخرة وكفر (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ)، فيقول الله تعالى في المثل (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) فهذا انتقال من المثل إلى الحقيقة، فالمثل ذهب الله بنارهم، لكن لما كانت هذه النار المقصود منها النور والإضاءة فربنا ينقلك إلى الحقيقة، ذهب الله بنارهم هؤلاء أهل المثل، لكن في الحقيقة ذهب الله بالنور الذي كانوا عليه، فهذا اسمه انتقال من المثل إلى الحقيقة. ويحسن هذا الانتقال في القرآن تشابه المثل والحقيقة، فالنار أصلا مضيئة والمقصود منها النور الذي فيها فلما تسمع (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) لا تجد فرقا كبيرا، فتنتقل من المثل إلى الحقيقة بلطف.
ومثل آخر أوضح في سورة التوبة، يقول تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ) هم أهل قباء الذين أسسوا المسجد على التقوى والإيمان، (خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) الجُرُف قطعة من الأرض جَرَف السيل ما تحتها، فتحتها خاوي، (هَارٍ) متهور ذهب أكثره، (أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) هذا مثل والحقيقة أنهم بنوا مسجد الضرار على غير الإيمان، ربنا قال في المثل (فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ) فهذا انتقال من المثل إلى الحقيقة، لأن المثل انهار في الأرض، لكن الله نقلك إلى الحقيقة، يقول أنهم انهاروا ببنيانهم في نار جهنم، ويحسن هذا الانتقال أن جهنم عميقة.
وهنا في سورة النور المثل واحد ظمآن رأى سرابا حسبه ماء، وهذا مثل لأعمال الكافرين حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ثم ينقلك الله إلى الحقيقة، في الحقيقة لما يأتي أعماله في الآخرة ويجعلها الله تعالى هباء منثورا فيجد الله عنده (فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) أي حساب كفره، فيكون المعنى والذين كفروا فلم يؤمنوا بالله تعالى لن تنفعهم الأعمال الصالحة، فأعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا وجده سرابا فلم ينتفع به ثم فى الآخرة إذا حشر فى أرض بيضاء عفراء ليس فيها علم لأحد ولم يجد أعماله الصالحة وجد الله عند ذلك ولقيه فردا فوفاه الله حساب كفره.
(وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) لأنه يعلم ما لك وما عليك فلا يحتاج إلى عد أو عقد بالأصابع، فيوفي هؤلاء الكافرين حسابهم فلا تنفعهم الأعمال الصالحة، لأن الإيمان شرط في قبول العمل، فمهما عملوا من عمل صالح وحسِبوه نافعا لهم عند الله فهو كسراب بقيعة لا ينفعهم؛ عائشة قالت قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ابنُ جُدْعانَ كانَ في الجاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، ويُطْعِمُ المِسْكِينَ، فَهلْ ذاكَ نافِعُهُ؟ قالَ: "لا يَنْفَعُهُ، إنَّه لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتي يَومَ الدِّينِ"، كان لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يرجو ثواب الآخرة، كان كافرا بالله تعالى فلا ينفعه ذلك العمل. وحتى في سقاية الحاج لما المشركون قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام نحن عمار المسجد الحرام ونسقي الحجيج فربنا أنزل (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ)، فالإيمان لا يعدله شيء ومع الكفر لا ينفع العمل الصالح.
فهذا مثل لأعمال الكافرين، والمثل الثاني في قوله:
المثل الثاني لأعمال الكافرين (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ) الفرق بين هذا المثل والمثل الأول أن المثلَ الأول مثلٌ لأعمال الكافرين الصالحة المستمدة من الوحي؛ فهي من آثار النبوة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية كل خير عليه البشر فهو من آثار النبوة؛ أي من آثار الأنبياء الذين بعثوا، أما هذا المثل؛ المثل الثاني فهو مثلٌ لأعمال الكافرين الفاسدة، الذين أعرضوا فيها عن هدي الأنبياء، كالثورة الجنسية أواخر الستينات في أوروبا، والمساواة بين الرجل والمرأة في كل شيء؛ وأن لها ما للرجل وعليها ما على الرجل، وغير ذلك مما حادوا فيه عن آثار الأنبياء، كل هذه الأعمال الفاسدة (كَظُلُمَاتٍ) ليس فيها نور، تدمر الأسر والمجتمعات كما حدث نتاج الثورة الجنسية في أوربا، والنساء لم ينتفعن بشيء من مساواتها بالرجل، بل أصبحت المرأة مهانة، يُتمتع بها في الحرام ثم تترك دون أي حقوق لها كحقوق الزوجة في الإسلام من مهر ونفقة وميراث وغير ذلك، بل ويجب على المرأة أن تعمل وتكد وتجتهد وتنفق على البيت مثلها مثل الرجل إضافة إلى أعمال البيت، فهذا ما جنته المرأة من مساواتها بالرجل.
ونظام الأسرة في أوروبا مدمر مع أن الثورة الجنسية لم يمض عليها إلا حوالى خمس وخمسون سنة، فأكثر الناس ممن أعمارهم فوق الستين والسبعين الآن يعيشون في غير أسرة، معظمهم يعيش وحده بغير أسرة، ويموت وحده فلا يُعرف موته إلا من انتشار رائحة نتن جثته في بيته، لأنه أمضى شبابه في الزنا دون زواج، ولو حملت عشيقته فقد أباحوا لها الإجهاض وقتل النفس، (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ).
وكذلك كل عمل ظن الناس فيه أنهم يحيدون عن الكتاب والسنة لأجل أن يستنيروا فهم في الحقيقة يدخلون في ظلمات لا تنتهي، والله تعالى جاءهم بالنور المبين ولكنهم كفروا بالله تعالى وظنوا أن عقولهم أسمى من الشريعة التي أنزلها الله، ظنوا أنهم يعلمون وأن الله تعالى لا يعلم، لكن الله تعالى أنزل أحكاما عادلة؛ يرى فيها مآلات الأمور، ممكن يكون فيها شدة عليك، كتحريم الزنا وشاب يريد أن يفرغ شهوته، والله يقول له (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا) لكن ذلك حتى يستقيمَ مجتمع كامل؛ وتستقيمَ أمة كاملة.
فالله تعالى يحكم أحكاما عادلة لكن أهل الضلال يصورون للناس - باطلا وزورا - أن أحكام الله تعالى فيها ظلم، والحقيقة أن ما شرعوه هو الظلم بعينه؛ وهو الظلمات بعينها، في أوروبا مثلا لما قالوا حق المرأة المتزوجة نصف ثروة الرجل! وظنوا أنهم أنصفوا المرأة، فأعرض الرجال عن الزواج، فلاعب الكرة مثلا لماذا يتزوج ويعطيها نصف أمواله وهو يعيش معها بدون هذه الإلزامات الظالمة.
فيقولون نحن أنصفنا المرأة بمساواتها بالرجل، والحقيقة أنهم ظلموها لأن العدل ليس هو المساواة، فلو عندك عامل قوي وعامل ضعيف أو ابن يستطيع التحمل وابن ضعيف لو عند توزيع المسؤوليات حمَّلت القوي مثل الضعيف وقلت هذا عدل ومساواة، نقول لك لا؛ هذا ظلم وإن كان فيه مساواة، لأن كل انسان ربنا أعطاه قوة أو مهارة خاصة به يستخدمها في أشياء مناسبة له، فكذلك الفرق بين الذكر والأنثى ربنا فرَّق بينهم؛ في البنية والطبيعة والعقلية والخلقة، أما أصحاب المساواة انتفت عقولهم حتى أصبحوا لا يرون فرقا حتى في الخلقة!
أوروبا تقدمت وأصبحت أمما ناهضة لما أخذوا من آثار النبوة، لما عرفوا أن الإسلام يأمر بالعدل والإتقان إتقان الصنعة وينهى عن الظلم ولا يؤثر الأغنياء في الوظائف العليا إلى آخره، فعدلوا إلى حد ما فكانت نهضتهم التي هم عليها، فما هم عليه من النور من آثار النبوة، وما هم عليه من الظلمات فمن ترك آثار هذه النبوة.
(أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ) أي أن أعمال الكافرين لو كانت صالحة فهي كسراب بقيعة في الآخرة، تنفعهم في الدنيا ولا تنفعهم في الآخرة، ولو حادوا عن أثر النبوة فيها فهي (كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ) بحر عميق.
(يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ۚ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) فهذا المثل لرجل خاض البحر حتى وصل إلى لجته، إلى عمق البحر، مثلهم في زماننا كالتنويريين، لما قالوا تحرروا من ظلام الشرائع والأديان، وزعموا أنهم آتون بالنور، فخاضوا بأتباعهم في ظلمات بحر لجي حتى وصلوا إلى عمق هذا البحر، (يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ) أي تراكمت أمواجٌ يعلو بعضُها بعضا، فتزيد الظلمة، (مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ) يعني حتى ضوء النجم والهلال احتجب عنه بالسحاب، (ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ) فعندك ظلمة البحر اللجي العميق وظلمة الأمواج التي يعلو بعضها بعضا وظلمة السحاب الذي حجب ضوء النجم والهلال وظلمة الليل، (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) فهؤلاء التنويريون هم الظلاميون في الحقيقة، وهذا مثل للشبهة التي يسمونها حجة، الشبهة تجد فيها ضعفا شديدا جدا ومع ذلك يتشبثون بها، فبعد أن خاض هذا التنويري بأتباعه هذا البحر العميق المظلم وبالكاد رأوا أيديهم قال هذا هو النور الذي جاء به!
ومثلهم أيضا أصحاب نظرية التطور، لما زعموا وجود أدلة على التطور، نظرية التطور قائمة على الانتقاء العشوائي ووجود كائنات وسيطة، وبالبحث في الأرض والصخور يفترض أن نجد حفريات لا عدد لها من هذه الكائنات الوسيطة المزعومة، ولكنهم بعد البحث في الأرض والصحاري بما أوتوا من إمكانيات وتكنولوجيا متقدمة ماذا وجدوا من هذه الحفريات الوسيطة؟! وجدوا عظْمةً زعموا أنها ضرس لكائن وسيط بين الإنسان والقرد، ويأتون برسام يرسم من هذا الضرس كائنا وسيطا بين الإنسان والقرد، ويصور ويُنشر في بحث علمي محكم! أو يقولون وجدنا فقرة عظمية لحفرية حوت من فقرات ذوات الأربع ثم يرسمون -تخيلا- من هذه الفقرة حوتا له أربعة أرجل! فهذه أدلتهم على ما هم عليه الباطل والظلمات، ويزعمون أنهم على علم ونور.
وحتى لو وجدوا حفرية كاملة لحوت بأربعة أرجل؛ يخلق الله ما يشاء، فمن قال لك أن هذا الحوت كان يعيش على سطح الأرض بأربعة أرجل ثم نزل البحر أو المحيط فأعجبه فاختار أن يسكن الماء ثم انقلبت رئتيه خياشيما، وأصبح جسمه انسيابيا لتناسب الحياة في الماء، ثم جاء من نسله باقي الأسماك وجميع كائنات البحر!
مثل هؤلاء حقا كمن أخرج يده فلم يكد يراها لضعف النور حوله ثم يزعم أنه على نور، ويسمي هذا النور الضعيف جدا حجة، وهي في الحقيقة شبهة لا قيمة لها، والظلمات تحيط به من كل جانب.
بخلاف المؤمن، ربنا قال عن أمره نور على نور، نور الإيمان ونور العمل، يزداد نورا بالعمل والقول مع الإيمان، ويستمد النور من الشجرة المباركة.
(وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) فمصدر النور الوحيد هو الله؛ نور السماوات والأرض، لا يوجد نور غيره، فمن أراد الهدى عليه أن يهتدي بنور الله تعالى، لذلك كان هذا هو مثل الكافرين في الدنيا، أنهم لو اهتدوا بشيء من آثار النبوة ومن آثار وحي الله تعالى كان نورا لهم في الدنيا، ولو حادوا عنه كانوا في الظلمات، المسلمين كذلك فالله ليس بينه وبين الناس نسبا، من يمشي على السبيل يهتدي، ومن يضل عنه ويبدل ويغير يصيب من الظلمة بقدر ما غير وبدل.
يعني لا تأسى على الكافرين، إن كان أكثر الناس أعرضوا عن دين الله تعالى وكفروا بربهم فالله يقول لك هناك ملكوت عظيم في السماوات والأرض مهتدي؛ على النور.
(أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم (أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ) يعني من الملائكة (وَالْأَرْضِ) يعني ومن في الأرض، (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) يعني حتى الخلائق التي هي بين السماء والأرض من الطيور التي تصف أجنحتها في السماء فهي أيضا تسبح بحمد ربها، وخصها بـ (صَافَّاتٍ) لأنها تكون كذلك إذا كانت فى وضع الطيران بين السماء والأرض.
(يُسَبِّحُ لَهُ مَن) (مَن) للعاقل والمخلوقات في السماوات والأرض فيها العاقل وفيها غير العاقل، فإما أن تقول غُلِّب العاقلون؛ لأن الملائكة والإنس والجن الصالحين داخلون في الكلام، وإما أن تقول أن هذه الكائنات لما كانت تسبح ففي هذه الحالة نزلت منزلة العاقل، لأن من يسبح في عرف الناس هم العقلاء، فلما تكلمنا عن هذه المخلوقات بالتسبيح نزلناها منزلة العاقل.
(كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) يعني كل مخلوق من هذه المخلوقات له صلاة خاصة به وله تسبيح خاص به، ممكن تكون صوصوة العصافير تسبيحا ونقنقة الضفادع تسبيحا.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) لا يخفى عليه تسبيحهم وتنزيههم لله تعالى.
يعني كل ما في السماوات والأرض ملك له وكلهم صائرون إليه، فالعابد في مملكته وتحت قهره وسلطانه، والكافر أيضا في مملكته، لكن يمهل الكافرين إلى يومٍ يصير الناس فيه إلى ربهم. فمصير الجميع إليه (وإلى الله المصير)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ ۖ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
وهذا مثل مضروب لقدرة الله تعالى، أن الله تعالى (يُزْجِي سَحَابًا) يزجي يعنى يسوق؛ أو يدفع، (وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ) يعني مدفوعة، لا يرضى بها التجار ويدفعونها.
(ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) يعني يجتمع هذا السحاب، قطع السحاب تتجمع، (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا) يجعل السحاب بعضه فوق بعض، (وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ) فمن آيات الله تعالى أن هذا السحاب الثقيل الذي يحمل أطنانا من الماء يحمله تبارك وتعالى على الهواء.
ورد عن السلف أن السحاب أول تجمعه من الأرض، كما يقول أصحاب العلوم في زماننا؛ يقولون أن السحاب يتجمع من مياه البحار أولا، روى ابن أبي حاتم عن عطاء قال: "السحاب يخرج من الأرض ثم تلى (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا)" فهم من قوله تعالى (فَتُثِيرُ سَحَابًا) يعني تجمعه أول ما تجمعه من الأرض،
وقال عبيد بن عمير الليثي : يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قما، ثم يبعث الله الناشئة فتنشئ السحاب، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه. رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير ، رحمهما الله. يعني أول شيء الرياح المثيرة تثير سحابا ثم التي تنشئ السحاب يعني في جو السماء ثم يؤلف بينه.
(فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ) الودق هو المطر، يخرج من ثنايا هذا السحاب.
(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ) فغير المطر النافع للناس ينزل أيضا البرد الذي يضر الزرع ويتلفه، وهذا أيضا من آيات الله تعالى أنه يرسل ما ينفع ويرسل ما يضر وكلٌّ بقدرته وحكمته. وهذا البرد موجود في سحب متراكمة كثيرة في السماء كأنها على هيئة الجبال، وهذه الأوزان الثقيلة تحملها الرياح في جو السماء بقدرة الله تعالى.
(فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ) هذه الإصابة مصيبة تحل على قوم، نزول المطر خير وبركة ونزول البرد مصيبة، (فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ).
(يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) ؛ يكاد سنا برق هذا السحاب
وهذا أيضا من آياته تبارك وتعالى، أن هذا البرق في سناه يعني في ضوئه ولمعانه يكاد من شدته -لولا رحمة الله بالعباد- يذهب بالأبصار.
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
لا يزال الله ينبهنا لآياته، آيات الطير التي هي صافات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله، وآيات السحاب الذي يرسل الله تعالى به الخيرات والبركات ويجعله على قوم آخرين مصائب وبلاء، ومن الآيات أن الله تعالى جعل ليلا ونهارا يتعاقبان، (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ).
فمن آياته تعالى أيضا (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ) يعني كل الخلائق في أصل خلقتها تجد تركيب الحيوانات التي تدب على الأرض من إنسان أو طير أو حيوان أو حيتان فتجد الماء عنصرا أساسيا في تركيب هذه المخلوقات، ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، لا يستطيع حيٌّ من هذه الأحياء التي نعلمها أن يعيش بغير الماء، (خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ) ثم دل اختلاف هذه المخلوقات على إرادة الله تعالى، لما تجد صانعا يصنع شيئا واحدا فهذا حافظ لهذا الشيء ولا يجيد غيره، غير لما تجد صانعا متفننا يصنع صنعات مختلفة فتعرف أن هذا المتفنن يصنع صنعات مختلفات وكل صنعة لها وظائف ولها قدرات غير الصنعة الأخرى، فهذا يدلك على قدرة هذا الصانع وعلى علمه وحكمته، فكذلك الله تعالى خلق خلقا متنوعا (فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ) مثل الحيات والزواحف تمشي على بطونها، (وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطير إذا مشى يثبت على رجلين، ويحفظ توازنه على هاتين الرجلين في مشيته بقدرة الله تعالى وإلهامه لتلك المخلوقات، (وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ) وعندما ترى باقى الكائنات ذوات الأربع وهي تمشي تحتار في كيفية مشيتها! ومنهم من يمشي على أكثر لكن الله يلفت لنا الانتباه أن في اختلاف المخلوقات وتنوعها دال على القدرة والعلم والحكمة. فمثلا ما نسميها أم أربعة وأربعين لأن لها أربعة وأربعين رجلا وتتحكم فيهم بقدرة الله تعالى.
(يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) يفعل الله تعالى ما يشاء بقدرته، (إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
في الربع السابق (وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ) أما هنا (لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ) فلا توجد (إِلَيْكُمْ) لأن في الأولى كانت المنة على المسلمين خاصة أما هنا فالحجة على الناس أجمعين وليس الموضع موضع امتنان.
ولما كان إقامة حجة قال (لَّقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ ۚ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
وصل اللهم على محمد والحمد لله رب العالمين