المجلس التاسع - من تفسير سورة النور

من قوله تعالى: "وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا...(47) حتى قوله تعالى: "لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۖ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57))

المجلس التاسع - من تفسير سورة النور
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)

الله نور السماوات والأرض

المَجْلِسُ التاسع من مجالس تفسير سورة النور 

مَسْجِدُ الحَمْدِ بِمَشْتُولِ السُّوق

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا اله الا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد، فهذا هو المجلس التاسع في تفسير سورة النور وقد وقفنا عند الآية السابعة والأربعين يقول الله تعالى: 

 في هذه الآيات يصف ربنا تبارك وتعالى حال فريق من الناس؛ وهم المنافقون، لماذا؟ لأن الآيات التي تقدمت ذكر الله فيها أهل الإيمان الذين اقتبسوا من النور والهدى وأن الله تعالى سيجزيهم يوم القيامة بأحسن ما كانوا يعملون، ثم ضرب مثلا للكافرين وأعمالهم، ثم ذكر حججه وآياته وبراهينه على وحدانيته…

   هنا في حضور ذهني في أذهان المسلمين للمنافقين لما يسمعون الحجج والبراهين والآيات والهدى، فيقول المسلم يا رب هؤلاء الذين يدَّعون الإيمان ويصلون معنا ويصومون معنا من أهل النفاق الذين لهم صفات غايروا بها أهل الإسلام؛ هل هم على الهدى؟! فيأتيه الجواب؛

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ) صفة هؤلاء المنافقين أن إيمانهم لا يجاوز ألسنتهم (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا)، (وَأَطَعْنَا) أي نفذنا أمر الله وأقمنا دين الله تعالى في بيوتنا وعملنا الخير وأخرجنا الزكاة ويعددون أعمالا صالحة، (ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ) في وقت الجد لما تدعوه إلى طاعة فيها مشقة أو فيها بذل أو فيها مجهود على النفس لا يستجيبون، (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ) في غير المشقة يظهر ويتبع، يعمل الطاعات السهلة أمام الناس، أما وقت الشدة والتضحية وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله يتخلفون؛ (يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ) يعني من بعد قولهم (آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا)، فحكم الله عليهم حكما (وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) من يتولى حين حاجة الإسلام إليه وليس له عذر ففي الغالب هو من المنافقين، غالب أمره أنه ليس من أهل الإيمان، أكثر الذين تخلفوا عن النبي عليه الصلاة والسلام في تبوك بغير أعذار كانوا من المنافقين إلا قليلاً مثل الثلاثة الذين خُلفوا ، فهؤلاء الذين تخلفوا عن الغزو في تبوك وثبطوا المسلمين عن الجهاد وقالوا لا تنفروا في الحر وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله فعملوا المعصية واطمأنت قلوبهم بها وفرحوا بتخلفهم عن النبي عليه الصلاة والسلام في الغزو فحكم الله تعالى فيهم وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ.

 (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ) من أبرز صفات المنافقين أنهم عند الحكم والتحاكم لا يتحاكمون إلى الكتاب والسنة، لما تدعوهم إلى حكم الله وحكم رسوله عليه الصلاة والسلام تجده معرضا، يبتغي حكم فلان أو حكم القوانين الوضعية أو أعراف الناس، ويُعرض عن حكم الكتاب والسنة، مثلا لا يريد توريث البنات فإذا دعوته إلى حكم الله تعالى وحكم رسوله ودعوته إلى الآيات التي شرع الله تعالى فيها أحكام الميراث وحقوق النساء أعرض ورفض.

(وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) لو كان الحق لهم يقولون لك نريد حكم الله، فمثلا امرأة تطالب أخاها بميراثها  من أبيها وتقول هذا حكم الله وشرعه؛ وهي نفسها تحرض زوجها ألا يعطي حقوق أخواته البنات، فلما كان الحق لها قالت نريد حكم ربنا وشرع ربنا، ولما كان الحق على زوجها حرضته على خلاف هذا الحق، (يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) يعني في غاية الانقياد، يقال ناقة مِذعان أي سلسة، فهذا دأب المنافقين؛ لو كانت الشريعة تعطيهم تجدهم مذعنين لها، أما لو الشريعة تفرض حقا في أموالهم مثلا حينئذ يتولون عن حكم الله تعالى وحكم رسوله، لذلك المسلم ينبغي أن يكون فطنا، فليس كل من تكلم بالشريعة في موطن كان ذلك عن إيمان حقيقي، بل ربما كان ذلك لحاجة أو لهوى نفسه، يعني مثلا امرأة تطلب الطلاق من زوجها لأنه ارتكب كبيرة الزنا، فتطلب الطلاق للضرر وتطالب بحقها كاملا، وهو هو نفس الزوج ينام عن صلاة الفجر ويأكل الربا ويغش ويخدع في صنعته ويأكل أموال الناس بالباطل وممكن يكون مدمنا للخمر إلى غير ذلك من الموبقات العظيمة ولم تلتفت إليها، ولكنها التفتت لكبيرة الزنا غيرة على نفسها، فلم تطلب حكم الله لأنه حكم الله، وإنما لأنه وافق هواها، فالمنافقون أحيانا يتكلمون بالكتاب والسنة لو كان الأمر سهلا، حتى يخادعوا الذين آمنوا، أو لو كان الحق لهم، أما أن يكون الحق عليهم فلا ينقاد حينئذ إلا المؤمن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) فتجد المؤمن يقوم لله تعالى ولو على نفسه ولو على الوالدين والأقربين؛ يقوم بالقسط، تجده يؤدي الحقوق ولا يطمع في أموال الغير، فالمسلم ينقاد لحكم الله تعالى ويقيمه ولو كان فيه مشقة على نفسه، قال رافع بن خديج رضى الله عنه : "نَهانا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم عن أمرٍ كانَ لَنا نافعًا وطواعِيةُ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أنفَعُ وأنفَع" هذا شعار المؤمن، لو كان الأمر له أو عليه ينقاد لأمر الله، تجده مثلا في معاملاته مع زوجته يؤدي إليها حقها ولا يظلمها؛ حتى لو نشزت أو غاضبته أو نحو هذا، وكذلك في كل معاملاته. فليس معنى أن تحتك مثلا أناس موظفون أنك تأكل حقهم بالباطل أو أناس ضعفاء أنك تعتدي عليهم، في الحديث الشريف أن أبا مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه قال: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِن خَلْفِي صَوْتًا: "اعْلَمْ، أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عليه"، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هو رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، هو حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقالَ: "أَما لو لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ".

 المقصود أن التكاليف الإسلامية لا شك فيها مشقة على النفوس، حُفت الجنة بالمكاره؛ كما قال عليه الصلاة والسلام، والمؤمنون لما تأتيهم تلك التكاليف يقولون سمعنا وأطعنا بل يقومون لله تعالى ولو على أنفسهم أو على أبنائهم، تجدهم قائمين لله تعالى، بخلاف المنافقين إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ.

أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)

هذه حقيقة المنافق؛ في قلبه مرض ويرتاب أي يشك في الإسلام ويشك في أقوال الله تعالى وأحكامه وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم، ويخاف أن يحيف الله عليه ورسوله يعني إذا دُعيَ إلى حكم الكتاب والسنة؛ إلى العدل، يخاف أن يكون حكم الله تعالى وحكم رسوله حيفا؛ والحيف هو الجور؛ الميل في الحكم والجنوح إلى أحد الجانبين، يقال تحيفت الشيء أخذته من جوانبه، مثل حافة الطريق وحافة اللسان، قال بعض الفقهاء يُرد من حيف الناحل ما يُرد من جنف الموصي، وحيف الناحل: أن يكون للرجل أولاد فيعطي بعضا دون بعض، وقد أُمر بأن يسوي بينهم، فإذا فضل بعضهم على بعض فقد حاف، هذا هو مذهب الحنابلة ومذهب الجمهور أن الأب له أن يعطي أبناءه فى حياته بغير تسوية وأن هذا على الكراهة وليس على التحريم.

 فهؤلاء المنافقون خائفون من ظلم الله وظلم رسوله! والله تعالى أعدل الحاكمين وأحكم الحاكمين ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا عن حكمه تبارك وتعالى، فلما اتهموا أحكام الله بالظلم قال الله تعالى فيهم (بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) يعني هؤلاء هم الظالمون على الحقيقة، مع قصر الظلم فيهم، وهذا اسمه قصر إضافي لتأكيد تلبسهم بالظلم. 

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)

(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أول ما تدعو المؤمن إلى حكم الله وحكم رسوله لا يتردد ويقول سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا حتى قبل أن يعرف الحكم، بعضهم يذهب إلى دار الإفتاء فإذا كانت الفتوى على هواه قال لخصمه نحتكم إلى المفتي، وإذا كانت على غير هواه كتم الأمر، أما المسلم من غير أن يعرف الحكم؛ إذا دُعي إلى حكم الكتاب والسنة أجاب مهما كان الحكم، يحكم الله تعالى ورسوله بالحق والعدل ونؤدي للناس حقوقهم ونحتسب ذلك عند الله والله تعالى لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.

(وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حصر الفلاح فيهم، لأن الفلاح: الفوز بالمطلوب، والنجاة من المكروه، ولا يفلح إلا من حكّم الله ورسوله، وأطاع الله ورسوله.

 ختم الله -تعالى- هذه الآيات وذكر حال المؤمنين بهذه الآية الجامعة، (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) في الأمر والنهي، (وَيَخْشَ اللَّهَ) فيما مضى من ذنوبه، (وَيَتَّقْهِ) فيما يأتي من أوامره ونواهيه، (فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)، فهذا حال المؤمنين؛ طاعة لله ورسوله، خشية مما مضى من الذنوب والآثام، فالمؤمن يرى ذنوبه كالجبل يكاد أن يقع عليه، مشفق من الذنوب، وأما المنافق فيرى ذنوبه كذباب أتى على أنفه فقال به هكذا، لكن المؤمنين من صفاتهم أن في قلوبهم وجلا وخوفا من الله تعالى ودائما ينظرون إلى ذنوبهم. 

(فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) يعني الناجون، الفوز أصل معناه في لغة العرب النجاة، حتى سموا الصحراء مفازة لأن من اجتازها نجا من الهلاك، أو تفاؤلا بالنجاة، لأن العرب كانوا أحيانا يسمون الشيء بعكس اسمه من باب التفاؤل، في حديث الرجل اللديغ الجارية قالت للصحابة "إنَّ سَيِّدَ الحَيِّ سَلِيمٌ، وإنَّ نَفَرَنا غَيْبٌ، فَهلْ مِنكُم راقٍ؟" فكانوا يسمون اللديغ سليما من باب أنه إن شاء الله سيسلم منها، فالفوز هو النجاة.

(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) كما مر عنهم يجيدون الكلام ولا يتورعون عن الحلف، كلما قابلوا النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين أقسموا، (جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) يعني يكثرون من هذا، (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) يأتون النبي عليه الصلاة والسلام ويقولون له وقت ما تأمرنا بالخروج من أبنائنا وأموالنا سنكون أول المطيعين، أو (لَيَخْرُجُنَّ) يعني للجهاد؛ في وقت الدعة والراحة ولا جهاد قائم يقولون وقت فرض الجهاد سنكون في أول الصفوف، ويحلفون على ذلك، (قُل لَّا تُقْسِمُوا ۖ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ) الطاعة معروفة؛ فأطع الله كما يطيع المؤمنون الله تعالى، وافعل كما يفعل المؤمنون، ولا تكثروا من الكلام والحلف دون عمل.

(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) تهديد لهم؛ أن الله عليم بالخفايا، فالخبير هو العليم بخفايا الأمور؛ العليم هو العليم بكل شيء لكن الخبير هو العليم بما يخفى.

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ ۖ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ۚ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)

 (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) هذا هو المطلوب (فَإِن تَوَلَّوْا) عن طاعة الله وطاعة رسوله (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ) النبي عليه الصلاة والسلام ليس عليه إلا حِمل البلاغ وأنتم عليكم حِمل الطاعة، فلن يُلامَ رسول بين يدي الله تعالى لماذا لم يستجب فلان؛ لماذا لم يهتدِ فلان، سيسأل النبي هل بلغت؟ فيقول يا رب بلغت، فقد أدى ما حمل، النبي عليه الصلاة والسلام في حديث الرؤية قالَ: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النبيَّ ومعهُ الرُّهَيْطُ، والنبيَّ ومعهُ الرَّجُلُ والرَّجُلانِ، والنبيَّ ليسَ معهُ أحَدٌ" تخيل أنبياء! يعني دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والسمت الحسن وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ وإخلاص الدين لله ويأتي يوم القيامة ما استجاب له إلا نفر قليل وبعض الأنبياء يأتي وليس معه أحد، فلن يُسأل من استجاب له من أمته ولكن يُسأل هل بلغت؟ وكذلك نحن كورثة النبي عليه الصلاة والسلام في البلاغ سنسأل هل أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر؟ هل بلغت رسالة الله تعالى؟ ولا يضرك عدم استجابتهم، بلِّغ؛ عليك ما حملت وعليهم ما حملوا، (فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ) من البلاغ (وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ) من الاستجابة. 

(وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) من يهتدي يهتدي لنفسه، والله تعالى لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين، يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي! لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. فالله تعالى لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية لكن أنتم المنتفعون؛ إن تطيعوه عليه الصلاة والسلام تهتدوا والنفع سيأتي عليكم، ستصبحون على نور، على هدى، على بينة من الأمر، وإن لم تطيعوه ستصبحون في ظلمات بعضها فوق بعض.

(وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) هذا تصريح بما أُجمل، بعدما قال له (عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ) يعني البلاغ المبين، فهذا التصريح كي يرفع من عليه أي حرج، ليس عليك إلا البلاغ المبين؛ تبين للناس أحكام الله تعالى، فهذا هو المطلوب، وقوله تعالى (الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) يعني الواضح البين، لذلك الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر من الدعاة إلى الله تبارك وتعالى ينبغي أن يبلغوا للناس بلاغا يبين للسامعين، فليس الشأن ماذا قلت لهم؛ ولكن الشأن ماذا فهموا منك، فكن حريصا أن تبلغ الناس بأسلوب يفهمونه. في بعض إخوانا للأسف -ولا نحسب منهم إلا الإخلاص- يجلس مع الكتاب يحضر خطبة ويجمع أقوال الأئمة والمفسرين، ثم بنفس الطريقة التي قرأ وجمع بها من الكتب يخرج على الناس ويخطب فيهم، وأكثر الناس لا يفهمون هذا الأسلوب، ولكن لخص ما فهمته وبلغه للناس بأسلوب يطيقونه. قَالَ عَلِيٌّ: حَدِّثُوا النَّاسَ، بما يَعْرِفُونَ أتُحِبُّونَ أنْ يُكَذَّبَ، اللَّهُ ورَسولُهُ، فالبلاغ المبين يعني البين الواضح للسامعين، ولما تتأمل دعوة النبي عليه الصلاة والسلام تجد أن المشركين الذين كفروا به فهموا دعوته، عن عبد الله بن عباس قال: أَخْبَرَنِي أبو سُفْيَانَ، أنَّ هِرَقْلَ قَالَ له: سَأَلْتُكَ مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ فَزَعَمْتَ: أنَّه أمَرَكُمْ بالصَّلَاةِ، والصِّدْقِ، والعَفَافِ، والوَفَاءِ بالعَهْدِ، وأَدَاءِ الأمَانَةِ، قَالَ: وهذِه صِفَةُ نَبِيٍّ. وكان أبو سفيان وقتها على الشرك، معنى ذلك أنه وصله البلاغ مبينا.

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)

هذا وعد من الله تعالى للمؤمنين الذين يطيعون الله تعالى ورسوله، فبعد أن بين ربنا أحكامه التي أنزلها وفرضها في السورة، وبعد أن صنف الناس إلى ثلاثة أصناف؛ مؤمنين وكافرين ومنافقين، طمأن قلوب المؤمنين (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)، بل أكثر من ذلك؛ في الدنيا التمكين والاستخلاف والأمن في البلاد، كل ذلك يحل على المؤمنين بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فهذه شروط الوعد حتى يتحقق؛ الإيمان بالله تعالى ورسوله وعمل صالح؛ إيمان صحيح وعمل صالح، فمن حققها نال الوعد، وهو (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) هذا أول شيء؛ يستخلفهم أي يجعلهم خلفاء الأرض، وخلفاء الأرض لها معنيان؛ الأول: أنهم يخلفون قوما آخرين (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا)، والثاني: أنهم يحكمون بين الناس (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ)، والاستخلاف هنا في سورة النور يصلح للمعنيين؛ أن الله يستخلفهم بدلا من قوم ظالمين ويجعلهم حكاما بين الناس يحكمون بينهم بحكم الله تعالى، 

ولك أن تقول هو هنا بالمعنى الأول لأن المعنى الثانى تضمنه قوله تعالى (وليمكنن لهم دينهم)

(كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) لأن هذه الآية نزلت وأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام مستضعفين، ذكر الطبري بسنده عن أبي العالية في قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ... الآية، قال: فمكث النبيّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين خائفا يدعو إلى الله سرّا وعلانية، قال: ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة. قال: فمكث بها هو وأصحابه خائفون، يصبحون في السلاح، ويمسون فيه، فقال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع عنا السلاح، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " لا تَغْبُرُونَ إلا يَسيرًا حتى يجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي الملإ العَظيمِ مُحْتَبِيًا فِيه، لَيْسَ فِيهِ حَدِيدَةٌ".  فأنزل الله هذه الآية (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) ... إلى قوله: (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ) " قال: يقول: من كفر بهذه النعمة (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) وليس يعني الكفر بالله. قال: فأظهره الله على جزيرة العرب فآمنوا، ثم تجبروا، فغيرَ الله ما بهم، وكفروا بهذه النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفعه عنهم. انتهى كلامه رحمه الله، فالآية نزلت وقت خوف؛ وقت شدة في المسلمين والله يعدهم وعدا أنه سيستخلفهم في الأرض. 

(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ) أضاف الدين لهم فقال (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ) ولم يقل دينه، بل قال دِينَهُمُ، وهذا ثناء على المسلمين أنهم تحملوا أمانة هذا الدين ومسؤولية هذا الدين، فيمكِّن الله لهم هذا الدين الذي ارتضاه لهم، حتى آية المائدة وردت (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ولم يقل ديني. فهذا ثناء من الله تعالى عليكم أنكم تستحقون أن ينسب هذا الدين لكم، كنتم أهله وكنتم أهل التقوى وأهل المغفرة وأهل الجهاد في سبيل الله فاستحقوا هذا.

(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ) فهذا الإسلام ارتضاه الله تعالى للعباد.

(وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) قدَّم الله تمكين الدين على تبديل الخوف بالأمن لأن هذا هو الأساس؛ (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) فالمسلم لا يريد التمكين في الأرض ليستريح ويترك الجهاد ويجمع أموال الخراج؛ ولكن همَّ المسلم أن يقيم دين الله تعالى في الأرض.

(يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) هذه الجملة في موقع الحال، والحال يأتي بمعنى الشرط، يعني حالهم في هذا الوعد أنهم يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، يعني يخلصون العبادة لي ويتبرؤون من الشرك كله؛ بجميع صوره؛ من دعاء غير الله تعالى؛ من تعلق القلوب رغبا ورهبا بغير الله؛ من تعظيم قوة الكافرين والمشركين في جانب التوكل على الله والاستعانة به؛ من صرف العبادات لغير الله كالذبح والنذر والطواف بالأضرحة؛ من تفضيل شريعةٍ غير شريعة الله تعالى على شريعته؛ وأحكامٍ على أحكامه، يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا هذه صفة هؤلاء الذين يستحقون التمكين؛ إيمان وعمل صالح وعبادة خالصة لله لا يشركون بربهم شيئا، لا يأتيهم الشرك من اليمين ولا من الشمال، لا تفتنهم الحضارة الغربية مثلا ولا العلمانية ولا الديمقراطية ولا الليبرالية ولا كل فكرة حادثة مخالفة للإسلام، وإنما يعتزون بدين الله تبارك وتعالى وشريعته التي أنزلها على رسوله؛ يعتزون بها لأنهم يعلمون أن حكم الله حق، مهما ابتدع الغرب من أفكار وسموها بأسماء مزخرفة يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، كقولهم حرية المرأة وحقوق الإنسان فنحن ننحي تلك الأحكام كلها ونقول حرية المرأة في الإسلام تكفي والحقوق التي شرعها الله تعالى للأسرى في الإسلام كافية، ونقول في كل حكم من أحكام الله تعالى الله نزل أحسن الكتاب وحكم أحسن الأحكام ولم يظلم الناس شيئا.

(وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) هنا أبو العالية -كما مر- ومقاتل ابن حيان وأقرهما ابن جرير وجماعة من المفسرين أنه من كفر النعمة، لما أنعم ربنا عليهم بالدين والتمكين في الأرض والاستخلاف لأنهم تمسكوا بأحكام الله تعالى كما استخلف الذين من قبلهم من الأمم الأخرى كبني إسرائيل لما تمسكوا بالكتاب واتبعوا الأنبياء كانوا في تمكين؛ كأصحاب موسى الذين أورثهم الله تعالى مشارق الأرض ومغاربها، وكداود وسليمان وما كان لهما من الملك، فالمسلمين كذلك ربنا وعدهم وهم في حال الاستضعاف أنه يمكن لهم لكن لو كفروا هذه النعمة؛ نعمة الدين، وتحكيم حكم الله تعالى بين العباد، وإخلاص العبادة لله، ونبذ الشرك، والإيمان والعمل الصالح، من كفر تلك النعمة (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، وكلمة الفاسقون هاهنا لها موقع رشيق، لأن أصل الفسق في لغة العرب الخروج من مخرج ضيق، يقولون فسقت الرطبة يعني خرجت من مخرج ضيق، فسقت الفأرة يعني خرجت من جحرها، فهنا هم بعد السعة والتمكين في الأرض من يكفر تلك النعمة يخرج من هذه السعة ويعانى فى هذا الخروج إلى فضاء واسع لا حد له ولا نور فيه وهو فضاء الكفر.

في حديث مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام يؤيد هذا الوعد، حديث عدي بن حاتم (كان نصرانيا وتأخر إسلامه رضي الله عنه) يقول: بيْنَا أنَا عِنْدَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إذْ أتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إلَيْهِ الفَاقَةَ (يعني الفقر والحاجة)، ثُمَّ أتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ، (فكأن النبي عليه الصلاة والسلام خاف أن يُفتن عدي فأراد أن يطمئن قلبه) فَقَالَ: يا عَدِيُّ، هلْ رَأَيْتَ الحِيرَةَ (في العراق)؟ قُلتُ: لَمْ أرَهَا، وقدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا، قَالَ: فإنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ (المرأة التي ظعنت على بعيرها) تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بالكَعْبَةِ، لا تَخَافُ أحَدًا إلَّا اللَّهَ (لانتشار الأمن) -قُلتُ فِيما بَيْنِي وبيْنَ نَفْسِي: فأيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قدْ سَعَّرُوا البِلَادَ (قطعوا الطرق وأفسدوا في البلاد)؟!- ولَئِنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى، قُلتُ: كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ؟ قَالَ: كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ، ولَئِنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِن ذَهَبٍ أوْ فِضَّةٍ، يَطْلُبُ مَن يَقْبَلُهُ منه، فلا يَجِدُ أحَدًا يَقْبَلُهُ منه، ولَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ أحَدُكُمْ يَومَ يَلْقَاهُ، وليسَ بيْنَهُ وبيْنَهُ تَرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ له، فَلَيَقُولَنَّ له: ألَمْ أبْعَثْ إلَيْكَ رَسولًا فيُبَلِّغَكَ؟ فيَقولُ: بَلَى، فيَقولُ: ألَمْ أُعْطِكَ مَالًا وأُفْضِلْ عَلَيْكَ؟ فيَقولُ: بَلَى، فَيَنْظُرُ عن يَمِينِهِ فلا يَرَى إلَّا جَهَنَّمَ، ويَنْظُرُ عن يَسَارِهِ فلا يَرَى إلَّا جَهَنَّمَ. قَالَ عَدِيٌّ: سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقَّةِ تَمْرَةٍ، فمَن لَمْ يَجِدْ شِقَّةَ تَمْرَةٍ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ. قَالَ عَدِيٌّ: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بالكَعْبَةِ، لا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ، وكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ، ولَئِنْ طَالَتْ بكُمْ حَيَاةٌ، لَتَرَوُنَّ ما قَالَ النَّبيُّ أبو القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ (الوعد الثالث)...

الراوي : عدي بن حاتم الطائي | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري

الصفحة أو الرقم: 3595 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]

التخريج : أخرجه البخاري (3595)، ومسلم (1016)

ابن كثير له في تفسيره كلام دائما أنقله عند تفسير هذه الآية، قال رحمه الله:

"هذا وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم. بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي : أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليبدلن بعد خوفهم من الناس أمنا وحكما فيهم، وقد فعل تبارك وتعالى ذلك. وله الحمد والمنة، فإنه لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين، وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها. وأخذ الجزية من مجوس هجَر، ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية - وهو المقوقس - وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة، الذي تملك بعد أصحمة، رحمه الله وأكرمه.
ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق، فلمَّ شعث ما وهِيَ عند موته، عليه الصلاة والسلام وأطَّد جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد، رضي الله عنه، ففتحوا طرفا منها، وقتلوا خلقا من أهلها. وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة، رضي الله عنه، ومن معه من الأمراء إلى أرض الشام، وثالثا صحبة عمرو بن العاص، رضي الله عنه، إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها، وتوفاه الله عز وجل، واختار له ما عنده من الكرامة. ومنَّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن استخلف عمر الفاروق، فقام في الأمر بعده قياما تاما، لم يدر الفُلْكُ بعد الأنبياء [عليهم السلام] على مثله، في قوة سيرته وكمال عدله. وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان، وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصَّر قيصر، وانتزع يده عن بلاد الشام فانحاز إلى قسطنطينة، وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله، عليه من ربه أتمُّ سلام وأزكى صلاة.
ثم لما كانت خلافة عثمان -رضي الله عنه-، امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك: الأندلس، وقبرص، وبلاد القيروان، وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى، وباد ملكه بالكلية. وفتحت مدائن العراق، وخراسان، والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجُبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه. وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن; ولهذا ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها" فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، فنسأل الله الإيمان به، وبرسوله، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا." انتهى كلامه رحمه بتصرف يسير.
فوعد الله تعالى حق وأمره تبارك وتعالى صدق وقد كان ما وعد به هؤلاء الصالحين من التمكين في الأرض، ومن فتح مشارق الأرض ومغاربها بعد أن كانوا خائفين يخافون أن يتخطفهم الناس، لكن لما قاموا بشروط هذا الوعد كان وعد الله تعالى لهم، ولمَّا كفر من كفر من بعدهم تلك النعمة فإن اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ، فالأمر يسير، هناك وعدٌ؛ والواعد به هو الذي يملك أمر السماء والأرض، الذي هو على كل شيء قدير، الذي بيده ملكوت كل شيء، وتنفيذ هذا الوعد سهل على الله تعالى، وهو يسير أيضا؛ فالشروط التي وضعها الله تعالى على المؤمنين حتى يمكنهم في الأرض من الإيمان والعمل الصالح وإخلاص الدين له والبراءة من الشرك وأهله يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه. 

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)

هذا أيضا من شروط الوعد، إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي ذلك رحمة بالعباد.

لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۖ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

تخيل دائما أن هذا الوعد نزل وهناك امبراطورية اسمها فارس وامبراطورية أخرى اسمها الروم، والعرب وقتها لا قيمة لهم عسكريا، القيمة العسكرية للعرب قبل بعثة النبي عليه الصلاه والسلام إلى أن مُكِّن عليه الصلاة والسلام لم يكن يأبه بها أحد، حتى إن كسرى لما سمع عن النبي عليه الصلاة والسلام أرسل له رجلين من رجاله، يظن أمره عليه الصلاة والسلام كأمر سائر العرب، ولكن هذا نبي يُوحى إليه والله تعالى يعصمه من الناس وينصره على أعدائه.

(لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) فمهما مُكِّن الذين كفروا في الأرض فلن يعجزوا ربهم، فمن هذا الذي سيعجز الله تعالى مهما أوتي من قوة، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً.

(وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۖ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) دائما لما ترى قوة الكافرين وتمكنهم في الأرض وتقلبهم في البلاد تذكر مصيرهم عند الله، وأن الله يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ، يلقون في النار إلقاء، ليس مجرد دخول كريم، يلقون فيها حصب جهنم أي تُحصب بهم جهنم، وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ ۖ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ. 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.