تفريغ الحلقة الأولى من حلقات مسابقة حفظ وتفسير سورة النور
تفسير الآيات من الأولى إلى العاشرة من سورة النور

استماع مباشرة من هنا
الآيات الواردة في المجلس
من الأولى وحتى العاشرة
سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ﴿١﴾
ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ﴿٢﴾
ٱلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوۡ مُشۡرِكَةٗ وَٱلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوۡ مُشۡرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ﴿٣﴾
وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ﴿٤﴾
إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ﴿٥﴾
وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ أَزۡوَٰجَهُمۡ وَلَمۡ يَكُن لَّهُمۡ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمۡ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمۡ أَرۡبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ ﴿٦﴾ وَٱلۡخَٰمِسَةُ أَنَّ لَعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ﴿٧﴾
وَيَدۡرَؤُاْ عَنۡهَا ٱلۡعَذَابَ أَن تَشۡهَدَ أَرۡبَعَ شَهَٰدَٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ﴿٨﴾
وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ ﴿٩﴾
وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴿١٠﴾
الحمدلله رب العالمين وصلِّ الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله أيها الإخوة الكرام مع أول حلقات تفسير سورة النور، وسيكون ذلك إن شاء الله هو موضوع المسابقة.
يقول الله تعالى:
بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ ﴿١﴾
24-1
هذه البداية تفردت بها هذه السورة – سورة النور- لأن الله تعالى فرض فيها أحكاما كثيرة على قِصر المبنى، ثم هذه الأحكام يجمعها رابط واحد وهو المسائل الاجتماعية التي يصلحُ بها المجتمع من الطهر والعفاف وصيانة الأعراض وغض البصر والحجاب والاستئذان وغير ذلك مما سيتبين لك إن شاء الله في هذه الحلقات يقول تعالى (سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ) فهذه ثلاث صفات للسورة (أَنزَلۡنَٰهَا) يعني هذه سورة منزلة من الله تعالى فليست من التشريعات الأرضية أو ليست قانونا بشريا وإنما أنزلها الله تعالى من فوق سبع سماوات فهي وحي من الله تعالى، ففارق كبير بين إنسان يطلب الهدى من رواية كتبها بعض المؤلفين أو قصة قصها بعض القصاصين أو قانون وضعه واضع من الناس أو نخبة من الشعب وبين من يطلب الهدى من وحي الله تعالى الذي أنزله على أنبيائه، إنه ليس ثَم هدى إلا هدى القرآن.
(سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا) فنحن الذين أنزلناها (وَفَرَضۡنَٰهَا) يعني فرضنا ما فيها من الأحكام لكثرة ما سيأتي من الفرائض والحدود التي شرعها الله تعالى في هذه السورة، فالله تعالى افتتحها بهذا الكلام (سُورَةٌ أَنزَلۡنَٰهَا وَفَرَضۡنَٰهَا) وقُرئ وفرَّضناها فيكون هذا على كثرة الفرائض يعني فرضا بعد فرض.
(وَأَنزَلۡنَا فِيهَآ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖ) يعني واضحات، دلالات وعلامات واضحة على أن الله تعالى هو الذي يهدي إلى صراط مستقيم، دلالات واضحة على أن حكم الله تعالى أحسن الأحكام وعلى أن شريعته تبارك وتعالى أحسن الشرائع، فهي بينات لأنك لو قارنت أي فرض أو أي حد أُنزل في هذه السورة بما يتعاطاه الناس ويتعامل به الناس فستجد علوّ أحكام الله تعالى على الأحكام البشرية.
(لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ) يعني تتعظون وتذكرون قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته بعباده، (لَّعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ) يعني تطيعون الله تعالى وترجعون إليه، وفي بعض أهل العلم قال هنا لطيفة في مسألة التذكر أن الله تعالى يسمي تعليم الناس بعد جهلهم ذكرى وتذكر يعني هذه الأحكام لم تكن معلومة قبل نزول السورة ومع ذلك فإن الله تعالى آثر أنْ يسميَ ذلك ذكرى، لماذا؟! لأن أحكام الإسلام كلها موافقة للفطرة التي فطر الله الناس عليها فكأن الإنسان يستحضر ما كان عالما، لذلك أنت لما تعلم أحكام الشريعة لا تجد غرابة في الأحكام كأنه لا يصح إلا هذا لأن الله تعالى فطر العباد على تلقي تلك الأحكام كأنك تذكرت بعد أن كنت ناسيا، وفي الحقيقة أنت علمت بعد أن كنت جاهلا لكن لأن الله تعالى غرس في الفطر السليمة الهدى فإن تلك الفطر توافق تلك الأحكام.
ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ﴿٢﴾
(ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ ) فهذا حد الزانية والزاني عند الله تعالى "فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة"، الجَلد هو ضرب الجِلد، يُقال جَلده يعني ضرب جِلده، وبَطَنَه يعني ضرب بطنه، ورَأَسَه ضرب رَأْسه، فالجَلد ضرب الجِلد، لذلك بعض أهل العلم نبّه أنّ هذا الجَلد لا يتعدى إلى اللحم، يعني لا يجرح فيحدث عاهات ونحو هذا، هو يؤلم نعم لكن لا يتعدى إلى اللحم.
(فَٱجۡلِدُواْ كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ ) هذا تفصيل حتى لا يلتبس، لو قال ربنا فاجلدوهما مائة جلدة كان ممكن يُظن أن كل واحد يأخذ خمسين، لا (كُلَّ وَٰحِدٖ مِّنۡهُمَا مِاْئَةَ جَلۡدَةٖۖ ) والآية افتتحت بالإناث قبل الذكور، في السرقة (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ) ابتدأ الله تعالى بالسارق لكن في الزنا قال (ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي) ابتدأ بالزانية، لماذا؟ لأن السرقة لا يتجاسر عليها في الغالب إلا الرجال، لأنها تحتاج غالبا قوة وشجاعة ومكر ونحوها، لكن الزنا لا يقع إلا إذا فتحت المرأة هذا الباب في الغالب، فلأجل هذا بدأ الله تعالى بهن في هذا المقام.
(وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ) لا ينبغي لأحد أن يقول الرحمة والرأفة، لأن الحدود شرعها الله تعالى استصلاحا للناس، ورحمة بالمجتمعات، ممكن يكون في قسوة على هذا الفرد في هذا المقام لكن من أجل أن تعم الرحمة في المجتمع، فلا أحد يقول الحد فيه شدة وفيه قسوة؛ نعم فيه شدة على هذا المجرم الذي أتى هذه الجريمة لكن في النهاية تؤول تلك الحدود إلى الرحمة، يعني مثلا الغرب لما قال عقوبة الإعدام فيها إزهاق الأرواح وبعض الدول الغربية ألغت عقوبة الإعدام ثم بعد سنوات مرت رجَّعوا عقوبة الإعدام، عرفوا ولكم في القصاص حياة، القتل أنفى للقتل، يعني إقامة هذا القتل في الناس يقلل القتل، هي عقوبة شديدة صحيح أن تزهق نفسا لكنها تحفظ المجتمع بالكامل بعد هذه النفس بخلاف أنك تحافظ على نفس وتضيع أنفس.
والحدود - حد الزنا - يقيمه أولياء الأمور على الناس، إلا السيد يقيمه على عبده وأمته ولا يرجع إلى الحكام وأولياء الأمور لكن سيدها يقيم عليها الحد فسيدنا عبد الله بن عمر جلد جارية له في الزنا فقال له عبيد الله ولده (وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ) هو ضرب ظهرها ورجليها، والجلد يكون على الظهر إجماعا وعلى الرجلين وغير المواضع المَقاتل مثل الرأس والوجه، فقال له عبيد الله (وَلَا تَأۡخُذۡكُم بِهِمَا رَأۡفَةٞ فِي دِينِ ٱللَّهِ) فقال أي بني ورأيتني أخذتني بها رأفة؟! فإن الله تعالى لم يأمرني بقتلها ولا أمرني أن أجعل جَلدها في رأسها، يعني تضرب وتوجع ولا تبرح ولا تبلغ اللحم ولا تقتل، حتى ذكروا أن الضارب لا يبدو إبطه.
(إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ) وهذا حث على تنفيذ الأحكام الشرعية، يعني لو عندك إيمان لو عند الناس إيمان فلا تأخذكم رأفة في إقامة حدود الله تعالى، ولا شفاعة في الحدود، النبي عليه الصلاة والسلام لما شفع أسامة ابن زيد في المرأة المخزومية التي سرقت غضب عليه الصلاة والسلام وقال أتشفع في حد من حدود الله؟!، يمكن الشفاعة في الحدود قبل أن تبلغ الحاكم فلو أحد سرق منك شيئا وقامت عليه البينة يمكن أن تتركه وتعفو عنه أمَّا لو بلغت به الحاكم وقلت له سرق وأثبت السرقة بالبينة أو الشهود فالحاكم يقيم عليه الحد ولا شفاعة ولا تملك العفو بعد ذلك، الزبير بن العوام لقى رجلا قد أخذ سارقا، وهو يريد أن يذهب به إلى السلطان فشفع له الزبير ليرسله فقال له لا حتى أبلغ به السلطان فقال اذا بلغت به السلطام فلعن الله الشافع والمشفع، المقصود أن الحدود يعفو عنها الناس بعضهم عن بعض لكن اذا بلغت الإمام فلا عفو، هذا هو الأصل فإذن إذا بلغت الإمام فلا تأخذكم بهما رأفة في دين الله (إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۖ).
(وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ) هذا أيضا من أحكام الله تعالى، أن يشهد عذاب هذين الزانيين طائفة من المؤمنين لأجل النكال والعبرة، فمن كان في نفسه شهوة ومرض ويمكن أن يقع في هذا الإثم لمَّا يرى تلك العقوبة أمام عينيه يُزجر، فمثلا تخيل أنك في بلدة تقيم تلك الحدود فدخلت الجامعة مثلا وفي أول يوم وجدت إدارة الجامعة نصبت مسرحا ونصبت شاشات في أرجاء الجامعة وجلدت زانيين فكيف سيكون سلوكك في بقية أيام الجامعة؟! بخلاف مثلا لو دخلت الجامعة وجدت مثلا التبرج والسفور والاختلاط وهذا الباطل فإنك تدخل تريد أن تتقي الله فلا تكاد تنجو ولا تكاد تستقيم، (وَلۡيَشۡهَدۡ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٞ مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ) من اللطائف ما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي، حدثنا يحيى بن عثمان، حدثنا بقية قال: سمعت نصر بن علقمة في قوله: (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) قال: "ليس ذلك للفضيحة، إنّما ذلك ليُدعى الله تعالى لهما بالتوبة والرحمة"، فالحد لمّا يقام صحيح يشهد العذاب طائفة من المؤمنين ليكون في ذلك عبرة وعظة ونكال، عبرة وعظة للمشاهِد ونكال للمجلود، لكن أيضا في طائفة من المؤمنين من أهل الصلاح يشهد هذا الحد فسيدعون لهما بالمغفرة والرحمة والتوبة والرجوع إلى الله تعالى، فهذا أيضا من فوائد شهود المؤمنين لحد الله تعالى الذي يقام في الأرض.
ٱلزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوۡ مُشۡرِكَةٗ وَٱلزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَآ إِلَّا زَانٍ أَوۡ مُشۡرِكٞۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ﴿٣﴾
هذه الآية فيها خلاف بين أهل التفسير والذي نختاره أنها في الترهيب من الزنا وفي تقبيح الزنا وفي تشنيع هذا الفعل وفي تسمية تلك الفاحشة باسمها يعني الزاني لا ينكح – ليس لا يتزوج – لا يطأ إلا زانية أو مشركة، يعني لا يطاوعه على الزنا إلا زانية أو مشركة، لا يوجد شيء اسمه باسم الحب ولا الحب له حق، كما يشيع المغنون والمغنيات والممثلون والممثلات هذا الباطل في الناس، كأن هذا الحب هو الميثاق الغليظ الذي أخذه الله تعالى على الناس، فالله –عز وجل- نفى هذا الباطل فقال الزاني لا يطاوعه على الزنا إلا زانية، وتأمل لم يسمها الله محبوبة ولا معشوقة ولا مساكنة، فهذا قول الجمهور أن الزاني لا يطاوعه على الزنا إلا زانية أو مشركة، والزانية لا يطاوعها على الزنا إلا زان أو مشرك.
(وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ) يعني الزنا، ويسمى باسمه لأن ربنا لم يستعمل الكنايات مع أن في مواضع من القرآن كما قال ابن عباس أن الله كريم يكني ما يشاء، لكن هنا صرّح ربنا في الآية باسم الفاحشة، كي تكون واضحة فلانة اسمها زانية وفلان اسمه زاني وهذه العلاقة التي هي خارج إطار الزواج وملك اليمين لا تسمى إلا بهذا الاسم، لا نسميها صداقة ولا مساكنة، كل ذلك اسمه زنا حرمه الله على المؤمنين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" فيزول عنه اسم الإيمان في هذا الوقت لأنه انتهك حرمة عظيمة من حرمات الله تعالى، لكن هو معه أصل الإيمان لكن ينتفي عنه كمال الإيمان.
والآية فيها قول آخر أن الزاني لا يتزوج إلا زانية والزانية لا يتزوجها إلا زاني، ومن قال بهذا القول هم الحنابلة وقالوا لا يحل زواج العفيفة من الزاني وهذا خلاف مذهب الجمهور، وهنا لطيفة؛ الإمام أبو محمد بن أبي حاتم رحمه الله قال: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد، عن ابن أبي ذئب، قال: سمعت [شعبة] -مولى ابن عباس، رضي الله عنه- قال: "سمعت ابن عباس وسأله رجل قال: إني كنت ألم بامرأة آتي منها ما حرم الله عز وجل علي، فرزق الله عز وجل من ذلك توبة، فأردت أن أتزوجها، فقال أناس: إن الزاني لا ينكح إلا زانية، فقال ابن عباس: ليس هذا في هذا، انكحها فما كان من إثم فَعَلَيّ"، وقول الجمهور هو اختيار ابن جرير الطبري أيضا كي لا يعارضنا أحد ببعض أسباب النزول نقول له ابن جرير أورد تلك الأسباب جميعها بأكثر مما تتخيل؛ أثر مرثد وأثر أم مهزول والبغايا في الجاهلية ونحو هذا وأعرضَ عن كل هذه الروايات واختار هذا القول الذي اخترناه لأنه لم يرَ تلك الأسانيد حاكمة، فضلا عن أن في قاعدة في أصول التفسير أن سبب النزول غير ملزم في التفسير من كل الوجوه يعني يمكن أن يحتمل أحد الوجوه.
إذن القول المختار في المسابقة في معنى الآية أن الزاني لا يطاوعه على الزنا ليست الصديقة ولا العشيقة ولا المحبة ولا المساكنة؛ لا يطاوعه على الزنا إلا زانية أو مشركة لا تؤمن بالله تعالى، وهذا تفريق واضح بين أهل الكبائر وبين أهل الشرك فالآية فيها رد على الخوارج الذين يكفرون بالكبيرة؛ أن الله تعالى فرّق بين الزانية غير التائبة وبين المشركة. والزانية لا يطاوعها على الزنا إلا زان أو مشرك.
(وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ) تذكر دائما إذا دعتك نفسك إلى تلك الفاحشة أنها ترفع عنك اسم الإيمان؛ ستسمى زان وليس مؤمن، "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن".
وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ ﴿٤﴾
شرع الله -تعالى- هذا الحد صيانة للأعراض، ليس معنى أن الزاني والزانية أتيا منكرا أن كل أحد يتهمهما بالزنا، لا؛ الزنا لابد أن يقوم عليه شهود أربعة. (وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ) لو أنّ أحدا قذف امرأة من المسلمات وقال فلانة زانية أو حتى قذف رجلا من المسلمين وقال فلان زان (ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ ) فحده عند الله تعالى (فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ وَلَا تَقۡبَلُواْ لَهُمۡ شَهَٰدَةً أَبَدٗاۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَٰسِقُونَ) ثلاثة أحكام وقعت عليه؛ يُجلد؛ نقول له معك شهود؟! أنت تقول فلانة زانية رأيت هذا الزنا بعينيك؟ فلو قال رأيت بعيني نقول ومن يشهد معك؟ لن نقبل شاهدين، مطلوب أربعة شهود، فلو لم يشهد معه يعني يتم الأربع شهود بنفسه يعني هو واحد ويأتي بثلاث معه؛ لو لم يكن هناك أربعة شهداء على الزنا يُعتبر قاذف ويُجلد ثمانون جلدة، حتى لو جاء بالشهود وثلاث شهدوا هو واثنان آخران ثم جاء الرابع فتلكأ أو تردد وما شهد نجلد الثلاثة، فتأمل الله –عز وجل- يريد أن يضيق تلك المداخل على الأمة، الآن لما تسأل عن مسلمة يُقال لك بها وبها من الكنايات، نقول اتقوا الله! أنتم تريدون أن تحذروا نعم لكن لا تُشيعوا الفاحشة في المؤمنين، حتي لا يستقيم في ذهن النفوس الضعيفة انتشار الفاحشة في المؤمنات فتسهل على النفوس. بخلاف أن ربنا يأمرك إذا رأيت هذا الأمر وليس معك الشهود تسكت لا يجوز لك أن تتهِم بالزنا ولو اتَّهَمْتَ بالزنا فعليك حد القذف في ظهرك ثمانون جلدة ولا تُقْبل لك شهادة أبدا وتسمى فاسقا. يعني ثلاث عقوبات شديدة يجلد وتسقط شهادته ويسمى فاسقا.
إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ وَأَصۡلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ﴿٥﴾
لو ظهرت عليه علامات التوبة وأقلع عن قذف المحصنات ولم يرجع إلى هذا الأمر وأصلح وظهر منه الصلاح فإن الله غفور رحيم، لكن هذا ليس للحد فهو سيجلد على كل حال، لكن بعد التوبة والصلاح تقبل شهادته ويرتفع عنه اسم الفسق، فالاستثناء هنا على العقوبتين الأخيرتين فقط وليس على الثلاث عقوبات. فبعد الجلد والتوبة الحاكم يرفع هذا الحكم يقول فلان تاب وأصلح وأقلع عن قذف المحصنات وبدا عليه الصلاح وترك سبيل أهل الفسوق فبعدها تُقبل شهادته ولا يُسمى في الناس فاسقا. وبعض أهل العلم اشترط أن يُكذِّب نفسه كي تُقبل توبته؛ يرجع يقول فلانة التي قذفتها أنا كنت كاذبا في قذفها، ومن هؤلاء الذين اشترطوا هذا الشرط سيدنا عمر رضي الله عنه.
طيب هذا الأمر واضح لكن هذا في حق أي أحد غير الزوج، لأن الزوج إذا رأى مثل هذا من زوجته فهذا أمر عظيم، صعب عليه أن يسكت حتى يلتمس الشهود، سيدنا سعد بن عبادة رضي الله عنه سيد الخزرج كان مشهورا بغيرته فقال للنبي عليه الصلاة والسلام يا رسول الله أهكذا أُنزِلت؟! لما سمع (وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَأۡتُواْ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجۡلِدُوهُمۡ ثَمَٰنِينَ جَلۡدَةٗ) فقال يا رسول الله أهكذا أنزلت؟ سيدنا محمد لما سعد بن عبادة قال له هذا فقال اسمعوا ماذا يقول سيدكم يا معشر الأنصار! فقال يا رسول الله والله إني لأعلم أنها حق وأنها من عند الله لكني تعجبت لو رأيت لُكاعا –زوجته- تفخذها رجل فاطلب له الشهداء فلا أطلب الشهداء حتى يكون قد قضى حاجته! فالنبي عليه الصلاة والسلام ليس عنده إلا هذا الأمر، فلم يمر إلا قليل وجاء هلال ابن أمية واتهم زوجته بالزنا في شريك ابن سحماء، يعني سمى زوجته وسمى من زنى بها في حد زعم هلال ابن أمية فقالوا ابتلينا بما قال به سعد بن عبادة. فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- لهلال بن أمية البينة أو حد في ظهرك، فقال يا رسول الله والله إني لصادق، ولكن مثل هذه المسألة ليس فيها صادق ولا كاذب، المسألة فيها أنك رميت محصنة بالزنا وليس معك الشهود، أنت صادق ولا كاذب هذا بينك وبين ربنا لكن عند الحاكم إما الشهود وإما حد القذف، وديانة أيضا بينك وبين الله لا يجوز لك أن تشهد إلا مع الشهود لأن ربنا يسميك فاسقا عنده ولو كنت صادقا، وهذا تغليب لمصلحة أمة كاملة؛ هذا الحكم تغليب لمصلحة الأمة ألا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، المهم سيدنا هلال بن أمية لما قال هذا الكلام رجى من الله تعالى أن يبرئه أن ينزل الوحي وتنزل آية براءة له من أن يُجلد في رمي امرأته بالزنا، فنزل قوله تعالى:
وَٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ أَزۡوَٰجَهُمۡ وَلَمۡ يَكُن لَّهُمۡ شُهَدَآءُ إِلَّآ أَنفُسُهُمۡ فَشَهَٰدَةُ أَحَدِهِمۡ أَرۡبَعُ شَهَٰدَٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ ﴿٦﴾ وَٱلۡخَٰمِسَةُ أَنَّ لَعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ﴿٧﴾
ربنا خفف عن الأزواج لأن هذا عرضهم، فبعيد جدا أن يرمي الرجل امرأته بالزنا كذبا لأنه عرضه، فربنا خفف عنه بدل الأربع شهود تحلف أربع شهادات بالله، والله حكم عدل هو خفف عن الأزواج لكن راعى أيضا الزوجات لاحتمال عدم صدق الزوج أو توهمه، فالمراد من التخفيف أن يرفع عن نفسه حد القذف ويستطيع أن يلاعن ويرمي امرأته بالزنا لكن يشهد أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين يقول: "أشهد بالله إني صادق في فيما رميت به زوجتي هذه من أمر الزنا"، ويشير إليها لكي يبقى الأمر واضحا، ثم يحلف الخامسة (وَٱلۡخَٰمِسَةُ أَنَّ لَعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ).
ومن حين يحلف توجد أحكام، أولا الولد الذي طعن في نسبه أو الحمل لن يُنسب إليه؛ يعني لن يدعى إليه؛ لن نقول فلان ابن فلان الأصل أن الولد للفراش لكن إذا لاعن امرأته نقول لا هنا الولد لن ينسب إليه ولكن يُنسب إلى أمه. ثانيا وجب عليها الحد، وحدها هو الرجم لأنها محصنة –كما سيأتي- تستحقه ما لم تدفع عن نفسها هذا الحد، ولكن كيف تدفعه عن نفسها؟! يقول الله تعالى:
وَيَدۡرَؤُاْ عَنۡهَا ٱلۡعَذَابَ أَن تَشۡهَدَ أَرۡبَعَ شَهَٰدَٰتِۭ بِٱللَّهِ إِنَّهُۥ لَمِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ ﴿٨﴾ وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ ﴿9﴾
تحلف تقول: "أشهد بالله أن زوجي كاذب فيما رماني به من الزنا"، أربع شهادات ثم تحلف الخامسة (وَٱلۡخَٰمِسَةَ أَنَّ غَضَبَ ٱللَّهِ عَلَيۡهَآ إِن كَانَ مِنَ ٱلصَّٰدِقِينَ) هنا النبي عليه الصلاة والسلام دعا امرأة هلال ابن أمية وقرأ عليهما الآيات وذكرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، لأن أحدهما كذاب هو يقول أنا صدقت عليها وهي تقول له يا رسول الله كذب، فإما أن يكون الزوج كاذبا ويناله لعنة الله أو يكون صادقا وينالها غضب الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام ذكرهما أن مهما كان عذاب الدنيا شديد اذا كان حد القذف للرجل ثمانين جلدة أو حد الرجم للمرأة فهو أهون من عذاب الآخرة، فلما قال أنا صادق وهي قالت هو كاذب فقال لاعنوا بينهما فلاعنوا بينهما فحلف هلال أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم قيل له عند الخامسة اتق الله إنها الموجبة، فعند الخامسة يستحب أن يُذّكر يُقال له اتق الله وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وتلك الموجبة تُوجب عليك لعنة الله، فسيدنا هلال لما قيل له هذا الكلام قال لا والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها - يقصد إذا كان ربنا أنزل فيه قرآنا مخصوصا يرفع عنه حد القذف- ، ثم قيل لها احلفي فحلفت أربع شهادات ثم قيل لها في الخامسة اتق الله إنها الموجبة – توجب عليك غضب الله – فتلكأت يعني تأخرت في أن تحلف ثم حلفت أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فكان قضاء النبي عليه الصلاة والسلام أن يُفرّقَ بينهما، وأصبح التحريم بينهما أبديا فلا يجوز له أن يتجوزها أبدا، وليس محرما لها، لكن هذا تحريم عقابي تحريم أبدي بين الزوجين، والولد لا يُنسب إلى هذا الزوج، لكن من رماها أو رمى ولدها يُحد حد القذف، لأنها درأت عن نفسها العذاب بالحلف، حتى أن الإمام أحمد أخرج هنا عن عكرمة أنه قال ولقد رأيته أميرا على مصر من الأمصار، ويُنسب إلى أمه ولا ينسب إلى أب يعني يقال فلان ابن فلانة وأصبح أميرا يعني عاش كريما لا يُرمى بأنه ولد زنا حتى بلغ منصب الإمارة.
طيب ربنا قال في حق الزوج اللعنة وفي حق المرأة الغضب! قال بعض المفسرين لأن الزوج فيما رمى به زوجته جلب عليها اللعنة؛ الناس تلعنها؛ فلو كان كاذبا كانت اللعنة عليه هو، وهي لو كانت كاذبة فقد علمت الحق وأنكرت وهذا شأن المغضوب عليهم، وفي وجه آخر قالوا لأنها استجلبت غضب زوجها عليها لما لوثت فراشه فنالت غضب الله تعالى عليها.
وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴿١٠﴾
(وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ) يعني هذه الأحكام التي أنزلها الله تعالى من حد الزاني وحد القاذف والتخفيف على الأزواج في مسألة اللعان كلها من فضل الله تعالى ورحمته على هذه الأمة، (وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) يفتح أيضا باب التوبة للزاني، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يكره أن يأتي الزاني يعترف بين يديه، فقال: "اجْتَنِبوا هذه القاذوراتِ التي نَهى الله عنها، فمَن أَلَمَّ فلْيَستَتِرْ بسِترِ اللهِ، ولْيَتُبْ إلى اللهِ؛ فإنَّه مَن يُبدِ لنا صَفحَتَه، نُقِمْ عليه كتابَ اللهِ عزَّ وجلَّ"، ولمَا سيدنا ماعز جاء يعترف على نفسه بالزنا ردّه في الأولى والثانية يرد والثالثة يرد ويسأل أهله هل به جنون، يريد عليه الصلاة والسلام أن يرجع يتوب بينه وبين الله، ولما جاءته الغامدية راجعها عليه الصلاة والسلام فمما قالته لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزا إني لحبلى من الزنا. فالمقصود أن الإسلام - شريعة الإسلام - غير متشوفة لجلد الظهور ورجم الناس وقتل الناس، بل العكس أنزل الله هذه الحدود رحمة بالناس وبالمجتمعات كي يبقى في رادع، لكن في نفس الوقت سترا للفاحشة استتر وتب بينك وبين الله فإن اعترفت فالحدود كفارات لا شك، لكن لو لم تعترف بذنبك عند الحاكم فإنك تتوب بينك وبين الله وهذا هو المستحب الذي استحبه النبي عليه الصلاة والسلام للأمة بتشريع الله تعالى طبعا.
الزانيان إذا كانا محصنين فإن حكم الله تعالى فيهما الرجم وليس الجلد، ودليل ذلك ما ثبت في الصحيحين، من رواية الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني، في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما: يا رسول الله، إن ابني كان عسيفا - يعني أجيرا - على هذا فزنى بامرأته، فافتديت [ ابني [ منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لأقضين بينكما بكتاب الله: الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام. واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها "، فغدا عليها فاعترفت، فرجمها.
ويؤخذ من الحديث أيضا أن من موجبات إقامة الحد الاعتراف لأنه أيضا بينة، فلو اعترف على نفسه بالزنا لا يلزم الشهود، واعتراف الرجل على نفسه لا يلزم منه ثبوت الزنا في حق المرأة، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقل وعلى امرأة هذا الرجم بل قال واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها.
مسألة: الشهود الأربعة يشهدون بالزنا الصريح، فلا يُقبل منهم أنهم رأوا الرجل والمرأة في بيت واحد ولا في لحاف واحد، بل يشهدون بالزنا الصريح يقولون رأينا فرجه في فرجها، والتشديد في أمر الشهادة هذا حتى لا تشيع الفاحشة، ولا تسهل تلك الفاحشة في أعين وأذهان الناس لكثرة الواقعين فيها.
مسألة: لماذا لم ينص الله تعالى على حد الرجم في القرآن بنص محكم؟! النبي عليه الصلاة والسلام رجم امرأة الأعرابي ورجم ماعزا والغامدية ورجم اليهوديين والصحابة رجموا، وفي الصحيحين أن عمر، رضي الله عنه، قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فإن الله بعث محمدا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى، إذا أحصن، من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو الحَبَل، أو الاعتراف.
فهذا الحد الثابت نُسخ تلاوةً من القرآن كأن الله تعالى يقول لنا أولا لا ينبغي للثيب أن يقع في الزنا لأن له بابا من الحلال أو تزوج قبل ذلك، وثانيا تكريما لهذه الأمة، لأن حد الرجم نُص عليه في التوراة وبين يدي النبي عليه الصلاة والسلام قال اقرأ فوضع اليهودي يده على آية الرجم، فربنا كرّم هذه الأمة فلم ينص على هذا الحد في القرآن بنص محكم حتى يظهر إيمانها أنها تعمل بالأدلة التي هي دون الأدلة، يعني اليهود نص على حد الرجم في التوراة عندهم وحرفوها والمسلمون لم ينص على حد الرجم في القرآن وعملوا به فكانوا أكرم من أمة اليهود في العمل، كما مثلا لمّا أراد ربنا أن يبتلي سيدنا ابراهيم عليه السلام لم يرسل له جبريل يقول له ربنا يقول لك اذبح ولدك وإنما أراه رؤية في منام، وكان يمكن لإبراهيم عليه السلام أن يتعلل يقول هذا منام وأنتظر الوحي من السماء، لكنه عليه السلام يعلم أن رؤيا الأنبياء حق هو دليل لكن دون الدليل دون الوحي، فأيضا السنة دليل دون الدليل دون القرآن وعملت به الأمة، وهذا تكريم لهذه الأمة حتى يظهر الله تعالى إيمان أمة الإسلام أمام مثلا جحود اليهود لأن النص عندهم في التوراة وكتموه وغيروه وبدلوا فكرّم الله تعالى هذه الأمة أن عملت بالسنة وهذه السنة مجمع عليها في المذاهب الأربعة وفتاوى علماء الأمصار على مر العصور الإسلامية بأن الرجم ثابت مجمع عليه.
مسألة: الثيب من جامع في نكاح صحيح – يعنى زواج صحيح – وهو حر بالغ، ويسمى أيضا المحصن، وكلمة محصن لها معاني في القرآن، في اللغة الإحصان: المنع، يقول لك فلان تحصن بحصن يعني امتنع منا بحصن. وفي القرآن له معان، الأول الحرية؛ فالمحصنة أي الحرة (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) المحصنات أي الحرائر غير المتزوجات هذا معناها في هذه الآية في سورة النساء، والمعنى الثاني تأتي بمعنى العِفّة (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) المحصنات أي العفيفات سواء كن ثيبات أو أبكارا، والمعنى الثالث تأتي بمعنى الإسلام لأن الإسلام حصن يمنع الناس من الفاحشة.
"وصلَّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله "
"والحمد لله رب العالمين"